الخميس، 23 يوليو 2020

خلاصة كتاب - الماجريات لإبراهيم السكران

الماجريات هو ما جرى من الأخبار والأحداث وتعني اشتغال الناس بالأخبار والأحداث التي لا نفع فيها والتشتت في متابعة وسائل التواصل وفي تقصي الأنباء والشطحات العقدية والشذوذات الفقهية والتقليعات الفكرية والجدل حولها والانجرار لمطاردة المهاترات الفكرية والقضايا الصغيرة ومماحكاتها ومغايظاتها المتبادلة والدوران اللاواعي في هذه الدوامة الذي يفضي بالمرء الى الانفصال التدريجي عن روح العمل والتنفيذ والانتاج. 
هذا التشتت والإفراط ترتب عليه سلبا تدهورالشهية العلمية واستثقال القراءة الجادة والبحوث الطويلة مع قلة الصبر على الدروس ومجالس العلم وزيادة الرغبة في متابعة الاحداث السياسية والوقائع اليومية والمهاترات الفكرية ومشاغبات القضايا الصغيرة أما إيجابا فقد حصل نمو للوعي بالواقع واللغة السياسية وزيادة مخزون تفاصيل الاحداث.

النقد المطروح هنا هو لكبح المغالاة والإفراط وليس للتوقف كليا عن أي متابعة وللتنبيه بين معرفة الواقع وبين الغرق فيه والتمييز بين المتابعة المتفرجة والمتابعة المنتجة والتفريق بين المتابعة زمن التحصيل والتعلم والمتابعة زمن العطاء والانتاج إضافة للتمييز بين توظيف الألة لخدمة الإنتاج أو الارتهان للألة في التحول لمستهلك للمحتوى وأخيرا لمعرفة الفرق بين فصل السياسة ومرتبة السياسة. 

قديما ذكر العلماء الماجريات التي كانت في وقتهم ،مثل الكلام في جزئيات احوال الناس وماجرياتهم ومداخلهم ومخارجهم والكلام الفارغ ولهو الحديث، ونبهوا أن الطاقة الذهنية محدودة ويجب استغلالها وأن صحبة الماجرياتيين فيه ضياع للوقت وهو من خلو البركة. 
أما في الوقت المعاصر فقد ذكر الكاتب إدمان النت وإدمان التواصل الشبكي والتصفح القسري والأعراض الانسحابية وأن هذا الإدمان أغلب دوافعه هي الهروب النفسي من تعقيدات المهام والمطالب لتحاشي المشكلات الحقيقية او المتخيلة اكثر من إغراء المحتوى نفسه. 
من مظاهر الماجريات الشبكية المعاصرة التي شرحها: التصفح الملثم - العمى الزمني (فقد الإحساس بالزمن) - إدمان البيانات والإغراق المعلوماتي  - النبأ المتدحرج  (متابعة وتعليق ثم تعليق على تعليق دون تحديد وقت)  - لحظات التسلل  (عند ضغط العمل - عند الفراغ - وعند بداية العمل او حتى بدل التأمل والعبادة) - مجاراة النظراء والأصدقاء - المهاترات الشبكية ( متابعتة المهاترات والمماحكات الفكرية والقضايا الصغيرة) وغيرها من الأمثلة.
يعيد الكاتب التأكيد أن المطلوب هو التوازن في التعامل مع كل ما تم سرده وليس القطع الكلي. 

في الفصل الثالث يركز الكتاب على الماجريات السياسية كونها تأخذ حيزا كبيرا من حياة المفكرين ويفصل الفروق بين الأنماط الأربعة للعلاقة بين السياسة والخطاب الشرعي التي تشمل: (العلمنة - السلطنة - التعميم - التخصص) وشرحها ثم سرد أمثلة ونماذج للدراسة حتي يعايش القاريء الخبرات والتجارب كوسيلة تحفيز أو كما عبر عنها ل "تضميد الجراحات الدافعية". 

الأمثلة هي لخمسة أشخاص معروفين يشتركوا في أنهم مفكرين عاملين مصلحين مؤثرين في محيطهم ونماذج للحياة العلمية الجادة استغلوا وقتهم ولم تشغلهم الماجريات وهم:

- البشير الابراهيمي الذي ولد في الجزائر وعاصر الاحتلال الفرنسي وفرض اللغة الفرنسية اجباريا وتعاون الفرنسيين مع الطرقية الصوفية لتخدير الشعب وشراء ذمم بعض المنتسبين للعلم لتبرير تصرفاتهم. رأى البشير أن أفضل طريقة للمقاومة هي ثلاثة أمور (تعليم منظم - مأسسة العلماء - إعلام إصلاحي). فساهم في إنشاء جمعية العلماء الجزائريين وعملوا على بناء المدارس ونشروا مجلات علمية أهمها "مجلة البصائر" وعمل سنين طويلة على "روح الاستنهاض" ونشر الوعي.
أهم مكونات مثال البشير الابراهيمي هو التمييز بين لباب السياسة (بناء الأمة -العقيدة - الأخلاق - العلم - الوعي - العمل - الإنتاج) وقشور السياسة (الجدل السياسي بين التيارات الحزبية والانهماك في الجدل الانتخابي وسمسرة الأحزاب والمهاترات السياسية التي تشغل الشعب عن القضايا الحقيقية.)

المثال أو النموذج الثاني هو المفكر مالك بن نبي الذي ناقش مفاهيم الاستعمار والحضارة وصنع مفهوم "القابلية للاستعمار"  كما أكد على أهمية الأفكار ومركزية القيم الأخلاقية وأولوية العمل أو الفعالية. 
لاحظ بن نبي أن معظم المجتمع انخرط في الخطابات السياسية وتجاهل العمل الفعلي والانتاج على الارض وصار يتوهم أن الأحزاب وصناديق الانتخابات هي التي ستحل أزمات الواقع وترتقي بالمجتمع وتصنع التقدم والحضارة ولذلك انتهى إلى تشبيه الاستغراق في المطالبة السياسية المتكررة بالحقوق ،بدون عمل وإنتاج، بخرافات المتصوفة واطلق عليها لقب "الدروشة السياسية" حيث أن الدروشة الصوفية تبيع الحروز والتمائم والدروشة السياسية تبيع أوراق الانتخابات والأماني الخيالية. 
مالك شارك وتحمل المسؤولية وكان لديه جدية في المطالعة والقراءة إضافة لتركيزالتفكير والتأمل سعيا للوصول لفهم الواقع وتقعيد ظواهره وهذا لا يصدر عن شخص استسلم للماجريات. 

النموذج الثالث هو أبي الحسن الندوي (الندوي هو لقب لكل من اعتزى الى "ندوة العلماء" أي نسبة مدرسية لا عشائرية).
سؤال الندوي الأول وضعه في كتابه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" ورسالة الندوي تناقش اشد حالات التصعيد في التورم الماجرياتي السياسي الذي تعدى الاهتمام المفرط بالصخب السياسي الى تأويل الاسلام نفسه بأن غرضه المشروع السياسي وقد نقد وعارض المودودي في هذه الأفكار.
الندوي كان شخصية فاعلة ومؤثرة وشارك في عدة مشاريع علمية مؤسسية. كما مر في سيرته مظاهر جدية صارمة في معاناة العلم وتاريخ الثقافات ما يزكي هذه التحذيرات من الانهماك في الماجريات.

النموذج الرابع كان مميزا مع عبد الوهاب المسيري الذي ألف العديد من الاعمال الكتابية سواء في دراسة وتفسير الظاهر اليهودية معرفيا أو نقد الحداثة الغربية ومنتجاتها الفكرية وأهم اعماله الموسوعة اليهودية التي استغرقت قرابة 30 عاما عانى فيها من رحلة للكويت اثناء الغزو لإنقاذ كتبه ومراجعه ومن تهديدات عديدة وسطو وسرقة على منزله في امريكا وتركه لعمله حتى يتفرغ للموسوعة ثم نسخه عدة نسخ منها وتوزيعها حول العالم لخوفه من سرقتها. 
عمل المسيري على استثمار المفاهيم التي طرحتها مدرسة فرانكفورت والمتأثرون بها مثل زيغمونت باومان الذي درس اطروحاته في نقد الحداثة وتأثر بهربرت ماركوز واليسار الجديد ثم بماكس فيبر وفرديناند تونيز الذي فرق بين كميونتي وسوسياتي (التي ترجمها ل مجتمع تعاقدي - مجتمع تراحمي) واستخدم مصطلحات الاغتراب والتشيؤ والتسلع والإنسان ذو البعد الواحد. 
يرى المسيري أن متابعة الأحداث والماجريات اليومية يجره لدوامة الحدثية فيشل قدرته على الإنتاج ويحوله لكاتب حدثي لذلك قرر أن تكون متابعته للأحداث ثانوية وقرر تحاشي كتابة الماجريات السياسية لذات الغرض وطرح مفاهيم تلخص أسلوبه مثل "الإنفصال المؤقت عن الواقع" ، "العزلة النسبية"  و"الإنغلاق النسبي". 

النموذج الأخير كان مع فريد الأنصاري الذي كتب رسالة الفجور السياسي لمناقشة ترسيخ الانحلال في المجتمع عبر التمكين للفساد الخلقي وزعزعة البنية الخلقية للمجتمع بينما الحركات الدينية تضخمت لديها دوائر الاهتمام بالماجريات السياسية ورهاناتها بدل التركيزعلى إصلاح الأخلاق ومواجهة هذا الإنحلال. ثم أصدر رسالة البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي التي تناقش إشكالية الاستغراق في الماجريات السياسية وتنقد المبالغة في هذا الاستغراق.
يصرح د فريد الانصاري أن أكبر خطأ وقعت فيه الحركة الاسلامية هو انشاء حزب سياسي لها حيث أشغلت الناس بهموم دنيوية وخطاب مادي بالدرجة الأولى وإنهماك في الماجريات السياسية ودعا لتجاوز التنظيمات الحركية إلى ما سماه "التنظيم الفطري" وللخروج من الحركات الإسلامية والتحليق في فضاء الدعوة العامة.

في الختام يلخص إبراهيم أن جميع المفكرين في الأمثلة أعلاه استغلوا وقتهم وأنتجوا وحذروا من الماجريات ويلفت الانتباه كيف أن الكثير يظن أن حمل هموم الأمة وقضاياها يستلزم الاستغراق في متابعة الواقع وأحداثه ولكن العلماء المصلحين وعمالقة الفكر في هذه الأمثلة وغيرها يتبنون رؤية نقيضة لذلك. 
يؤكد الكاتب على أهمية فهم الواقع سواء الفكري او السياسي واستيعاب أنماط تشكله وصيغ تفكيره وطبيعة احتياجاته وأن المطلوب هو التوازن في متابعة هذا الواقع ويعيد أيضا التذكير بمشاكل اللهاث وراء الماجريات الشبكية على حساب التحصيل والتفكر والإنتاج ويقدم بعض الحلول منها مفهوم الصوم عن الأخبار الذي بلوره أندرو ويل والذي يشابه ما فعله المسيري مثل "الإنفصال المؤقت" و"العزلة النسبية" إضافة لمحاولة التذكر المستمر لأهمية الوقت الذي يمضي ولا يعود وأن بعض العلوم لا يمكن تحصيلها بوقت قصير ولا يستوعبها عمر الشخص الواحد واستحضار هذه الأفكار قد يحفز الشخص للتركيز على العمل والإنتاج وعدم الانجراف للتفرج والمتابعة ومماحكة الماجريات. 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق