الاثنين، 26 مارس 2018

جدلية المصلحة والفكرة والمجتمع

الكلام التالي يحتوي بعض "الفلسفة والتنظير" لذلك ينصح بفنجان قهوة قبله أو خلال تصفحه. 

يدخل مجموعة عندها فكرة ما (سواء ضارة أو مفيدة) على مجتمع ما ويكون أمام شخصيات وأفراد ذلك المجتمع عدة خيارات أبرزها:

1- خيار القوة الديكتاتوري: يتمثل في صد أصحاب الفكرة وقمعهم بالقوة وهذا دليل تفوق القوة المادية لذلك المجتمع وليس بالضرورة قوة فكرتهم الخاصة بهم ومنطقهم وعلمهم وغالبا لن ينهي القمع ذلك الفكر المطروح عليهم سواء كان سويا وصحيا او لا بل ربما يجعله مرغوبا بالسر أحيانا. وقد لا يكون هذا الخيار متاحا اذا كانت الفكرة قد تم فرضها من جهة حكومية تميل للديكتاتورية بدون استفتاء المجتمع.

2- الخيار السهل: حين يقرر أغلبية المجتمع إغلاق أعينهم وأذانهم والتقوقع في بيوتهم ومنع أولادهم ومن يخصهم من الأفراد من التفاعل مع ذلك الفكر وقبوله ان كان صالحا أو رفضه إن كان طالحا.
هذا يسمح للفكرة المطروحة بالانتشار التدريجي حيث لم تجد ما يقابلها ولم يحصل عليها اي نقاش وربما تطورت لغسيل دماغ كامل. (من الخيارات السهلة للكثير عدم المشاركة في السياسة أو النشاطات الاجتماعية العامة أو حتى بعضهم تطرف وابتعد عن العلم "المادي" وهذا الخيار غالبا يكون سببه فهم خاطيء للدين ،في معظم الأديان، وكلمة اعملوا وتحويلها لكلمة اجلسوا وناموا )


3- الخيار الصعب التفاعلي أو خيار العمل: يتلخص في التفاعل مع الفكرة والأشخاص الطارحين لها ونقاشها والتوعية منها إذا كانت تضر المجتمع ونشر الأفكار المقابلة لها. 
هذا الخيار يتطلب عمل وجهد ويعتمد على قوة فكرة المجتمع الأولى ووعي هذا المجتمع ككل أيضا.  فإن تقبل المجتمع أفكارا تحوي مبادئ خاطئة فالمجتمع نفسه يحتاج لعمل توعوي وتعليمي ولا يجب إلقاء اللوم على الفكرة الدخيلة التي كشفت هذا الشيء وإن رفض المجتمع هذه الفكرة نظرا لمبادئها الفاسدة فهذا دليل على أن المجتمع ككل بخير.

يحصل في كل هذه المراحل ،خاصة في الخيار الثالث، صراع بين مصلحة أصحاب الفكرة وفكرتهم المطروحة والمجتمع.
فإن كانت مصالحهم (المادية) ستتأثر سلبا حيث لن يتعامل معهم المجتمع بسبب فكرهم حينها سيتم التراجع عن الفكرة تغليبا للمصلحة ،بشرط أن تكون الفكرة هنا مادية، حيث أنه تم تقييمها مقابل المصلحة.
أما إذا كانت الفكرة غير مادية ،بمعنى روحية فلسفية إيمانية، فالجدلية والصراع مع المجتمع سيكون أصعب ولن يؤثر بها ويذيبها إلا الخيار الثالث ( التفاعل والعمل) وربما ينتهي المطاف بتأثر المجتمع بها أو جزء منها ويحصل اندماج بين تلك الفكرة والمجتمع وأفكاره. 

نظريا -و حسب رأيي الشخصي- الخيار الأول يزيد ويشجع على الديكتاتورية التي قد تنقلب يوما ما على ذلك المجتمع نفسه (عندما تتجلى جدلية القوة والفكرة والمجتمع) وربما تتعامل معه بنفس ما سبق وسمح وتعامل به وهو القوة ويصبح ذلك المجتمع هو الضحية.

الخيار الثاني (السهل) سيؤدي في حال ما لوجود فراغ وهذا الفراغ ستملأه أفكار قد تتطور وتتفاعل مع بعضها ثم تصبح طوفانا جارفا لكل من أغلق عينه وأذنه ودفن رأسه في الرمال حتى لا يرى ما يجري وما يحصل من حوله.

الخيار الثالث ،من وجهة نظري، هو الأفضل حيث أنه يشجع الجميع على التدافع الجيد والتفاعل وهذا التضارب في الأفكار إما سيصحح مفهوما مغلوطا أو سيساهم في تطوير أفكار قديمة في المجتمع وفي أسوأ الحالات ربما يتراجع بالمجتمع ويصيبه بمرض ما ولكن سينكشف ذلك المرض لاحقا ويتم علاجه عند دخول فكرة منافسة معالجة لهذا المرض وأفضل ما في الموضوع أن هذا الاختيار الثالث لن يفعل القوة الديكتاتورية التي لا يؤمن جانبها على الأغلب.

في الختام أسرد أبيات للشاعر معروف الرصافي تتعلق بالخيار الأول والثاني :
يا قوم لا تتكلموا إن الكلام محرمُ
ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النومُ
و تأخروا عن كل ما يقضي بأن تتقدموا
و دعوا التفهم جانبا فالخير أن لا تفهموا
و تثبتوا في جهلكم فالشر أن تتعلموا
أما السياسة فتركوا أبدا وإلا تندموا
إن السياسة سرها لو تعلمون مطلسمُ
و إذا أفضتم في المباح من الحديث فجمجموا
و العدل لا تتوسموا والظلم لا تتجهموا
من شاء منكم أن يعيش اليوم وهو مكرمُ
فليمسي لا سمع ولا بصر لديه ولا فمُ
لا يستحق كرامة إلا الأصم الأبكمُ
و دعوا السعادة إنما هي في الحياة توهمُ
فالعيش وهو منعم كالعيش وهو مذممُ
و إذا ظلمتم فضحكوا طرباً ولا تتظلموا
و إذا أهنتم فاشكروا وإذا لطمتم فابسموا
إن قيل هذا شهدكم مر فقولوا علقمُ
أو قيل إن نهاركم ليل فقولوا مظلمُ
أو قيل إن ثمادكم سيل فقولوا مطعمُ
أو قيل إن بلادكم يا قوم سوف تقسمُ
فتحمدوا وتشكروا وترنحوا وترنموا

فيديو لطيف للقصيدة أعلاه:


محمود الجسري 
26-3-2018

الأربعاء، 21 مارس 2018

تقنية وأشرار (2) - علم النفس والاستهداف على شبكات التواصل


التقنية هي عامل مهم للدفع والتطويرالحضاري والثقافي ويوجد الكثير من الأدلة الشاهدة على ذلك، ولكن هذا لا يمنع أيضا أن تكون في يد الأشرار لمحاولة استغلالها شر استغلال، فهي في النهاية أدوات مثلها مثل الكثير من الأدوات التي تستعمل للخير والشر. السطور التالية تحاول إلقاء الضوء على جانب مظلم من التقنية للتعريف والتوعية. 

الجزء الثاني من هذا الموضوع - قد انتشرت فضيحة متعلقة به منذ عدة أيام متورط بها شركة كامبردج اناليتكا وفيسبوك -  يتعلق باستخدام علم النفس والتحليل والقياس النفسي - Psychometric analysis - للتلاعب بالعقول والأفكار على شبكات التواصل الاجتماعي للوصول إلى ما يسمى بالتنميط - Psychometric profiling - ثم استخدام النتائج للتأثير والتوجيه بشكل مباشر او غير مباشر.
و هذه العملية بدأت بشكل ما (غير رسمي) مع بدايات الإنترنت وبدأت بالتطور مع دخول تطبيقات المنتديات والمحادثة ثم وصلت لمكانة وتقنية متقدمة جدا مع دخول التطبيقات التي جمعت ملايين البشر مثل تويتر وفيسبوك وغيرها. 

إختبارات السايكوميتري أو القياس النفسي هو فرع من علوم النفس واستخدمت هذه الاختبارات في البدايات لقياس معيارمناسبة الموظفين لمناصب معينة  ودرجة ذكائهم واستعدادهم لتلك الوظيفة عبر طرح عدة أسئلة أو امتحانات بسيطة يتم بعدها قياس الأنسب والأجدر بناء على الإجابات.
بعد ذلك طُورت هذه الاختبارات والأسئلة للدخول في عالم التسويق ومعرفة من سيشتري منتج معين اويقبل بفكرة معينة بناء على درجة ذكائه وما يفضل من منتجات او خيارات في حياته. 
Psi
الحرف الاغريقي  ويرمز لعلم النفس
تتكون هذه الاستفتاءات أو الاختبارات عادة من مجموعة أسئلة عامة وقد تكون غير مباشرة وليست واضحة المغزى للشخص المستهدف وفي الوسائل القديمة كانت محدودة ببضع صفحات خاصة بذلك الشخص بذاته ولكن بعد دخولها في شبكات التواصل الاجتماعي الضخمة أصبحت كمية البيانات التي تحصد أضخم بكثير فهذه التطبيقات يمكنها مشاهدة تاريخ الشخص كله منذ بداية استخدامه للشبكة ومعرفة جميع ما اعجبه وما أغضبه وماأحزنه وماسره وأفرحه ولا تنتهي بما أحبه بل أيضا يمكن تحليل كلماته وتعليقاته وما كتبه في حالاته المختلفة إضافة لمناطق ضعفه النفسية وغيرها من المعلومات. ومن الحقائق المثبتة حاليا أن بعض هذه البرامج تعرف عنك أكثر من أصدقائك وزملائك في العمل بل وحتى أكثر من أفراد أسرتك في حالات كثيرة .  

الأخطر من ذلك (وهي إحدى نقاط قضية الساعة مع فيسبوك وكامبردج اناليتكا) هي أن بعض هذه التطبيقات لم تحلل بيانات الشخص المستهدف فقط بل انتقلت لجميع دوائر أصدقائه بناء على الصلاحيات التي وافق عليها ذلك الشخص وبشكل ما سمحت له برامج الشبكة الاجتماعية بذلك وهذا يعني أنه بمجرد أن وافق شخص واحد فيمكن أن يتم تحليل بيانات مئات الأشخاص واذا افترضنا أنه شارك 200 الف شخص بإحدى الدراسات (وهذا ممكن جدا ببعض الاغراءات البسيطة وهو الرقم الذي جرى تداوله في القضية المذكورة) وافترضنا ان معدل الاصدقاء لكل شخص منهم من 250 الى 300 صديق (و هو معدل متواضع من وجهة نظري) فالنتيجة هي أن الشركة حصدت بيانات 50 الى 60 مليون شخص وحللت كل ما يمكن تحليله عنهم وعن شخصيتهم بثمن بخس وتكلفة لا تذكر مقارنة بقيمة البيانات والنتائج. والأنكى من ذلك أن الأغلبية العظمى منهم لا تدري ولم توافق على هذا ولكن تحقق الوصول لهم عن طريق الأصدقاء البسطاء المخلصين (هنا يحضرني مقولة عدو عاقل أفضل من صديق جاهل )

بعد موسم الحصاد لهذه البيانات الضخمة وتحليلها يأتي دور ما يسمى - Microtargeting - وهنا يتم استهداف كل مجموعة مصغرة أو حتى شخص حسب أهوائه وحسب موقعه من التصنيف أو التنميط الذي  وضع به سابقا وذلك للوصول للهدف الرئيسي ومعرفة تفاصيل تفكيره والتأثير عليه سواء لشراء منتج أو التصويت لرئيس معين أو تصويت وطني سواء تجاري أو سياسي أو اتخاذ أي قرار يصب في صالح العقول التي صممت تلك الدراسة أو من دفع لها لتصميمها.
يمكن أيضا التأثير بطرق مختلفة مثل عرض محتويات تحفز الحزن أو الغضب أو غيرها من المشاعر عند عشرات أو حتى مئات الألاف من الناس في مناطق معينة وحسب جنس أو فئات عمرية معينة وغيرها من الطرق المباشرة أو غير مباشرة في التأثير.  

الجدير بالذكر هنا أنه هذه الشركات لا تؤثر في دولة واحدة فقط بل هي ذات امتداد عالمي وبعضها اتهمت بتورطها في اكثر من 20 دولة وقرارات سياسية وتجارية مختلفة.

من أشد مساوئ هذا الموضوع التأثير على المسار الديمقراطي والبحث والقرار الحر لدى كل شخص مستهدف واستخدام مستوى ذكاء عالي جدا منتج من قبل نخبة من العقول الجبارة للتأثير على أشخاص أقل ذكاء. يمكن المقارنة هنا بمجموعة أشخاص أو عصابة مفتولي العضلات ومسلحين بأسلحة ذات تقنية عالية يفرضون رأيهم على أشخاص أقل منهم قوة وبدون أسلحة. 

ما الفرق بين الذكي الذي يستخدم عقله للتلاعب بشخص أقل ذكاء واللص القوي الذي يجبر فقيرا ضعيفا على التخلي عن ماله أو قوت يومه له. ربما ينظر لها البعض بنظرة ميكافيللية أو داروينية من زاوية أحادية تبريرية خاطئة ومادية بحتة بقولهم أن البقاء للأذكى في هذه الحالة ولكن هذا التلاعب في النهاية يؤذي المجتمع الديمقراطي ويعمل ضد العقود الاجتماعية التي يعمل بها كأسس وقوانين إضافة للمبادئ الأخلاقية التي قد تكون أخر ما تفكر به هذه الشركات التي تسعى للربح المادي فقط ولا يهمها حياة الشعوب ودمائهم. 
و بالطبع ،و كما يقال لايفل الحديد إلا الحديد، فهناك الجانب التقني الإيجابي الذي يمكنه اكتشاف هذا التلاعب وفضحه ولكن هذا لا يكفي بل يجب أن يكون الوعي بما يجري منتشرا بين جميع الناس وآمل أن تساعد هذه المقالة في ذلك. 

محمود الجسري
21-3-2018