السبت، 10 أغسطس 2019

خلاصة كتاب - مناهج البحث عند مفكري الاسلام.


ينبه أستاذ الفلسفة الدكتور علي النشار(رحمه الله) في كتابه "مناهج البحث عند مفكري الاسلام" على وجود وتطور منظور إسلامي مستقل عن منطق أرسطو وأن علماء المسلمين وضعوا منطق ومنهج مختلف هو المنطق الاستقرائي التجريبي.

يذكر الكتاب في بداياته كيف أن العديد – ممن اشتهروا بالمجددين وقادة الفكر- خلال بدايات القرن العشرين حاولوا تأكيد فرض الحضارة و الثقافة الأوروبية زاعمين أن أسلافنا فعلوا ذلك حين اخذوا بفلسفة اليونان وأن الحضارة الإسلامية ماهي الا ترديد لحضارة اليونان.

لتفنيد ونقض هذا الادعاء سرد النشار عدة دلائل على علم المسلمين بالمنطق اليوناني في العهد الأموي وفي زمن مبكر ثم كيف تكررت تراجمه في العصر العباسي ومنها ترجمة اسحاق بن حنين لأكثر أجزاء الأورغانون (الألة) وهي مجموعة كتب أرسطو في المنطق وكيف أن بعض المغرضين مثل ابن المقفع (روزبه) كتب باب برزويه ومزدك ليؤكد يقينية الفلسفة ووصولها للحق المطلق ليثبت تناقض الأديان بناء على منطق ناقص ويسرد المؤلف مواقف كافة العلماء في العصور السابقة من المنطق و الفلسفة ويبرهن كيف وصلوا للمنهج الاستقرائي التجريبي قبل الغرب بزمن طويل.

يجب التنويه هنا أن الكتاب متخصص في الفلسفة والمنطق ومن الصعب المتابعة بدون عمل أبحاث جانبية والوصول لمعاني بعض المصطلحات الخاصة وقد افتقد الكتاب لأمثلة توضيحية وسرد بعض التعريفات متأخرا، ربما لافتراضه أن القارئ عنده علم مسبق بالمنطق والفلسفة. لذلك اعتذر مسبقا عن أي تقصير أو خلل في الشرح ولكن اجتهدت قدرالمستطاع في تلخيص أفكار الكتاب.

يسرد الكتاب عدة تعاريف للمنطق أبرزها أنه: (قوانين للفكر تعصمه من الزلل في التفكير) وبعضهم قال أنه ألة للفلسفة بينما البعض قال أنه قسم من أقسام الفلسفة ويقسم مواقف العلماء في تلك الفترة من التراث الارسطي لخمسة أقسام مع الاستدلال وتفصيل كيفية تعامل كل فرقة مع المنطق الأرسطي وهم :

1- هلينيون اسلاميون وهم إما فلاسفة أو شراح ملخصين للتراث اليوناني وامتداد للاسكندرين المتأخرين من مدرسة أرسطو المشائية مثل: الفارابي- ابن سينا- الساوي- ابن رشد - أبو البركات البغدادي وقد حاولو التوفيق بين الأراء ولم يعارضوا أرسطو ومنهم اصوليين متكلمين تأثروا بالرواقية -Stoicism ورفضوا كثيرا من عناصر منطق ارسطو واضافوا ابحاثا خاصة بهم مثل السهروردي - أخوان الصفا والخوارزمي.

بعض الأمثلة من أقوال هؤلاء العلماء شرح الخوارزمي للفلسفة (فيلا سوفيا) بمعنى محبة الحكمة والعلم بحقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح واعتبار الفارابي المنطق جزءا من الفلسفة ثم قوله انه ألة للفلسفة وشرح ابن رشد ل St. Thomas في قوله أن العملية العقلية الأولى عند العرب هي التصور والثانية هي التصديق (تقسيم المنطق الذي هو أصلا تقسيم أرسطو) وقال معظم الشراح أن التصور هو إدراك المفرد والمفرد هو لفظ (واللفظ جزئي وكلي)و هذا التقسيم للألفاظ أنتج تفكيرا منطقيا لغويا دقيقا. وبما أن الألفاظ مرتبطة بالمنطق دعى بعض العلماء -أبرزهم الشافعي- للقول بأن المنطق اليوناني يستند إلى خصائص اللغة اليونانية فهو منطقها ولن يكون مناسبا للعرب لأن تراكيب العربية تختلف وكانت هذه إحدى الحجج القوية للتغيير وإنشاء منطق جديد خاص بالعرب والنتيجة أن الشراح الاسلاميين لم يقفوا عند حد العناصر الارسططاليسية بل أضافوا أبحاثا خاصة بهم لاختلاف اللغة وأبحاثا أخرى رواقية ومزجوا هذين العنصرين بالعنصر الأرسطي ثم أصبح هذا المزيج هو منطق الشراح المذكورين.
شذ عن هذه الفكرة أبو البركات البغدادي حيث قال أن الألفاظ ودلالتها على المعاني هو علم اللغات. 

يسرد المؤلف العديد من المصطلحات مثل التصديقات (القضاياو الاستدلال): والاستدلال يشمل القياس حيث يدلل على أن القياس الفقهي عرفه المسلمين قبل ترجمة أرسطو بوقت طويل والاستقراء (وهو تتبع الحجة التي يستدل بها من حكم الجزئيات على حكم الكليات)و التمثيل (إثبات حكم في شيء لوجوده في شيء آخر يشترك معه في علة الحكم - الخمرو النبيذ كمثال)و القسمة الافلاطونية التي أخذ بها الجويني (تقسيم الأشياء لأجزاء حتى تعرف مثل القول: الموجودات إما جماد وإما حيوان والحيوان إما ناطق أو لا والناطق هو الإنسان) والفصل (وهو صفة الشيء).

2- الموقف الثاني هو موقف المتكلمون (يشمل هذا الموقف علماء أصول الفقه وعلماء أصول الدين أوأهل النظر مع انهم من غير المتكلمين) الذين رفضوا ونقدوا المنطق الارسططاليسي (كما نقده بعض الرياضيين المعاصرين)و حاولوا اقامة منطق جديد. يدلل الكاتب على أن الشافعي هو أبرز من وضع مباحث الأصول واجتهد بها بينما يعتبر الغزالي المازج الحقيقي للمنطق الارسططاليسي بعلوم المسلمين وهو أول من خلط منطقهم بأصول المسلمين ثم تراجع في أخر حياته وانتقل لطريق أخر هو التجربة الباطنية أو الكشف الصوفي.

يعلل الكاتب عدم قبول المتكلمين للمنطق الارسططالي لأنهم لم يقبلوا أرسطو ميتافيزيقياً فكان من البديهي عدم قبول منهاج بحثه وخالفوه بوضع منطق عملي خالي من الميتافيزيقا ينقسم لحد واستدلال وطريقهم هو قياس الغائب على الشاهد بينما كان طريق المنطق الارسططاليسي هو القياس والبرهان.

يفصل الكاتب رأي الغزالي وكيف تعارض بين المنطق اليوناني والنقل فقضى على الأول لينقذ الثاني حيث ربط نقد العلية وخرق العادة بمعجزات الأنبياء وقد سبق بذلك النقد فلاسفة اوروبيين: مثل مالبرانش (الله هو السبب او العلة الحقيقية – قدم الارادة الالهية وشمولها على المنطق ) - بركلي (أرجع العلية للعقل) - هيوم (مثل الغزالي انكر الضرورة بين العلة والمعلول وتصور العلة ليس في الحقيقة الا تتابع العادة ومنشأ في المخيلة وقكرة تتابع اخرى). كما يرى الغزالي أن افضل الطرق للتوصل للمجهول هي باستخدام المعلوم والتقريب وضرب المثل منه (النجار وجب على مرشده ان يضرب له امثال من صناعة النجارة ليكون أسبق لفهمه) ويعرض الغزالي لاصطلاحات طوائف المسلمين المختلفة في الموضوع والمحمول فعند النحوين يسميان مبتدأو خبر وعند المتكلمين صفة وموصوفا وعند الفقهاء حكماو محكوما ويضع لنفسه مصطلحات جديدة والنتيجة عنده انه لا يجب ان يختلف المسلمين عن اليونانيين الا في الاصطلاحات ولا مشاحة في الالفاظ ثم يسرد كيف غير الغزالي فكرته عن المنطق مع انه سابقا شرطه للثقة ثم ذمه وبالغ في ذم المتمنطقين اكثر من المتكلمين وربط طرقهم بالجهل والكفر وجرى هذا الأمر بعد القرن الخامس وانتشر قول "من تمنطق تزندق" وحرم ابن الصلاح كتب المنطق وكتب أصول الفقه التي تحوي منطقا كما انشغل الفقهاء والعلماء بتحليل وتحريم علوم المنطق.

3- الفريق الثالث من العلماء هم فقهاء السنة والجماعة (أبرز الأمثلة كان ابن تيمية) وكان موقفهم رفض للمنطق الارسطي ونقد ممنهج هادم له رافقه أيضا بناء وإنشاء منطق جديد ذا فكر إسلامي خالص. فصل الكتاب أهمية أفكار ابن تيمية الفلسفية في نقد المنطق الأرسطي بإسلوب علمي منطقي فقد قال ابن تيمية ان المنطق يخالف صحيح المنقول وصريح المعقول ايضا ووصل لمصادر السفسطائيين والشكاك والرواقيون والمتكلمون و قال أن المنطق الأرسطي يقيد الفطرة بقوانين صناعية وهو جامد في مواجهة الحاجات الإنسانية المتغيرة.

كانت الغاية من الحد عند ابن تيمية هو التمييز بين المحدود وغيره وليس تصور المحدود وقد قارب هذا الرأي جون استيوارت مل وبرتراند رسل وجونسون حيث ذكروا أن الحد هو شرح اللفظ فقط.

يبدأ ابن تيمية نقضه للقضية الارسططالية بالتركيز على "نسبية" البداهة (المنطق الارسطي يقسم التصديقات لبديهي ونظري)و قال ابن تيمية أن الناس تتفاوت في قوة اذهانهم أعظم من تفاوتهم في قوة ابدانهم.و من النقاط المهمة جدا هنا أن المنطق الأرسطي قائم على المنهج القياسي ولكن ابن تيمية ،وغيره من علماء المسلمين، تكلم عن التجربة والمنهج و العلم التجريبي الذي هو أساس النهضة الصناعية حيث يعرّف التجربة ب: "محصول الأثر المعين دائرا مع المؤثر المعين دائما فيرى ذلك عادة مستمرة لا سيما إن شعر بالسبب المناسب فيضم المناسب الى الدوران مع السبر والتقسيم" وكذلك تكلم الأشاعرة قبله عن أفكار خاصة بالدوران والمناسبة والسبر. لقد مجد ابن تيمية التجربة والتجريب ويرى انها حاسمة قاطعة وأننا نحتج بها على المنازع وأكد على التواتر ويقينيته بينما أنكر المنطق الارسططاليسي بيقينية القضايا المتواترة ولعل التواتر هو ما دعا الى انشاء علم عظيم هو علم مصطلح الحديث. (و كان ردا حاسما على المنطق الارسطي أيضا).

يقرر الفيلسوف النشار أن ابن تيمية سبق "بيكون"و "جون استيوارت مل" في جعل التجربة أو الاستقراء أساس ومصدر العلم وكيف أنه وضع اسس فلسفة النسبية واضحة في نقده لحقيقة المعرفة. أيضا أكد ابن تيمية أيضا ارتباط المنطق اليوناني باللغة اليونانية وبالتالي لا يمكن ان يستخدمه غير الناطقين باليونانية كما هوو قرر ابن تيمية أن المسلمين توصلوا بأنفسهم وبدون منطق ارسطو لكثير من صور هذا المنطق بإسلوبهم وعباراتهم الخاصة ووصل لقمة الدرج في فلسفة المنهج التجريبي بنقده للمنطق اليوناني القياسي وبدعوته لمنطق اسلامي تجريبي.

بعد ابن تيمية تابع البعض نقد المنطق مثل ابن القيم - الصنعاني - السيوطي وغيرهم حيث يؤكد الصنعاني أن الأولين من اهل البيت والسلف لم يعرفوا المنطق وأن اسلوب القرأن يخالف اسلوب اليونان (اللغة) وقد تأثر بابن تيمية واستشهد به في عدة مواضع (لإبن رشد ردود على هذه الحجة ولكنها تتجاوز موضوع الكتاب). والبعض اتجه اتجاه ابن الصلاح في تحريم المنطق مثل السبكي. (حرمه لمن ليس لديه علم كافي قبله) كما أن للسيوطي كتاب مهم جدا في نقد المنطق بعنوان "صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام" وأهميته تكمن في شموله وترتيبه التاريخي وتلخيصه لبعض الكتب المفقودة.

4- الموقف الرابع من المنطق خاص بالصوفية الذين حاربوا المنطق على العموم سواء بصورته اليونانية أو الإسلامية وقدموا الاستنباط القراني وهو أن يردد الصوفي القران مستغرقا فيه حتى تنفتح له المعاني ثم ينتقل للعبادة والخلوة والتردد بين المقامات والأحوال حتى تنقدح المعرفة فيه او تلقى اليه (ذوق وحدس ورفض للعقل) وهذا ما تحول له الغزالي في أواخر حياته فقد قرر أن طريق الحق لا يتوصل اليه بالعلم بل بالذوق والحال وتبدل الصفات وشذ عن هذه الفئة المتصوفة الاشراقيين وأبرزهم السهروردي حيث يقول انه حصل على منطقه بالذوق ثم حاول البرهنة عليه لذلك سموه منطقا اشراقيا برغم التناقض والشك في صحة ما يقرره السهروردي فهي محاولة عقلية بحتة ويميزه الكاتب لأن منطق السهروردي لا يشبه الصوفية كونه نقد المنطق من ناحية عقلية ووضع منطقا عقليا لا يعترف به الصوفية فهو لاكشف ولا ذوق.

5- الفئة الأخيرة من موقف العلماء تجاه المنطق الأرسطي هم علماء العلوم الطبيعية التجريبين مثل جابر بن حيان والحسن بن الهيثم الذين لم يقبلو المنطق لأنه نظري يختلف عن روحهم التجريبية ويدلل الكاتب في هذا الباب كيف انتقل مجلس التعليم العلمي من الاسكندرية في عهد عمر بن عبد العزيز إلى انطاكية ثم حران فمرو وتلاها بغداد وكيف بنى المأمون بيت الحكمة وبدأ البحث التجريبي في مختلف العلوم. تلا ذلك هجرة علوم فارس للعالم العربي ثم علوم الهند والسند التي تكلم البيروني عنها ووصل لنتائج خطيرة وهي انه كان لدى الهنود علم جزئي كبير متقدم لكن بدون رباط علمي منهجي بينما اليونان كانوا عكس ذلك فلديهم نظرية العلم والبرهان لكن بدون علوم الهند الجزئية.

ويبرهن الفيلسوف النشار كيف توصل علماء المسلمين للمنهج الاستقرائي التجريبي كمنهج وطبقوه على علوم الهند واليونان وكيف انكر المؤرخون الأوربيين فضل العرب الفلسفي ولكن لم يستطيعوا انكار فضلهم العلمي (ابن الهيثم - الطوسي - ابن سينا وغيرهم)و يدلل ب جورج ساتون الذي قرر أن اعظم النتائح العلمية لمدة أربع قرون كانت صادرة عن العبقرية الاسلامية باللغة العربية - راجع كتابه Intro. to the history of science.
يدلل أيضا أن التجربة كانت معروفة عند العديد من العلماء ولكن بمسميات ومصطلحات مختلفة فمثلا مصطلح الدوران والدربة هو التجرية عند جابر بن حيان ويدخل في تفاصيل أبحاث جابر بن حيان منها الاستدلال بالإنموذج (المجانسة) والاستدلال بمجرى العادة حسب مدى تكرارها (وهي أمور تكلم بها علماء معاصرون) ودلالة الأثارالتي وصلت عبر التاريخ من شهادة الغير والسماع والرواية. هناك أيضا العالم الكبير الحسن بن الهيثم ومنهجه التجريبي (الاستقرائي) حيث كان يسمي التجربة اعتبار والمجرب هو المعتبر وكان الاثبات عنده بالاعتبار (روجر بيكون ترجم كتاب البصريات للحسن بن الهيثم). ويقول النشار أنه حتى ابن خلدون استخدم المنهج الاستقرائي في براعة نادرة لتفسير الذوات العرضية التي قابلها للتوصل لأحكام عامة.

أخيرا يذكر النشار تقسيمات المناهج لأندريه لالاند ويقابلها بمسمياتها التي عرفها المسلمين وهي 
1-المنهج الاستقرائي وعرفوه بالتجريبي 
2- الاستنباطي وعرفوه بالقياس 
3- المنهج الاستردادي أو التكويني وعرفوه بمصطلح الحديث
 4- المنهج الجدلي وعرفوه بأداب البحث واالمناظرة والجدل 
وقد كان المنهج الاستقرائي التجريبي هو طريق الحضارة الأوروبية الحديثة ووسمها ومبدعها وهو ما انتج الحياة الحديثة وقد عبر إليها هذا المنهج الإسلامي المصدر من خلال الأندلس-إسبانيا.