الاثنين، 28 نوفمبر 2022

الشاورما والعراضة وغزو الغرب. (مقال ساخر)


تنبيه وتنويه: المقال التالي هو مقال ساخر. يمكن مراجعة بعض مقالات مارك توين لبناء استيعاب لنصوص مشابهة. لست ضد الشاورما إنما أرصد بعض المواقف والتحولات التي تحصل في هذه الفترة ولامانع عندي أن تدعوني على شاورما إذا أعجبك المقال.

-------------------------------

في هذه الأوقات المفصلية من التاريخ حيث استحكمت العولمة وانتشرت التقنية التي قلصت العالم وعمت الحداثة وما بعدها وتسارع الاستهلاك وكل شيء وغيرت كل هذه العوامل الكثيرمن الأمورعلى جميع المستويات السياسية والاجتماعية. خلال كل ذلك حصل تسلل من الشرق لغزو الغرب ثقافيا وحضاريا وحتى على أصعدة أخرى ربما نذكر بعضها لاحقا.
هذا التسلل لم يبقى سرا ويمكن مشاهدته الأن عبر المئات بل الألاف من مطاعم الشاورما المنتشرة حول العالم وفي عواصم غربية ضخمة وحتى المدن والقرى الصغيرة شمالا وجنوبا. 

لقد قاوم الغرب الكثير من حملات التوسع الامبراطوري الأموي ثم العباسي ثم العثماني وحاول غزو الشرق والسيطرة عليه عبر الحملات الصليبية ثم الاحتلال والاستعمار وغيره من صراعات الملوك والأمبراطوريات لنهب ثروات وفرض ثقافات وافكار معينة. ولا يمكن انكار أن تفوق القوة المادية وليس الروحية في هذا الوقت هو للغرب وقد فشلت حركات وجماعات كثيرة في التسلل لهذه القوة ولكن في فترة قريبة من التاريخ الحديث نجح بعض معلمي الشاورما في كسر هذا السد المنيع واحداث ثقب فيه والدخول بسيخ من الخاصرة لاحقا طريق شهوة البطن للتأثيرعلى الحضارة الغربية برمتها وربما إضعافها حتى درجة التخمة والانهيار.

وبصفتى مواطن غربي من أصل عربي أعلن قلقي الشديد الذي يتجاوز قلق "بان كي مون" الأمين العام الثامن للأمم المتحدة المشهور من هذا الانتشار والتأثيرخاصة بعد مشاهداتي السابقة لما فعلته شهوة البطن متمثلة بالشاورما ومراكزها في الشرق ولكن ما باليد حيلة وإني أعلم أنها مسيرة التاريخ التي لا بد منها وأن من مات فات، وكل ما هو آت آت وأن محلات الشاورما باقية وتتمدد ولامفر ولا مهرب من القدر.
ولكني استغل هذا الموقف لاحتقار كل الطغاة والمستبدين العرب - خاصة ورثة الجمهوريات - الذين ساهموا في التدمير والتهجير والظلم والأذى الذي بالتالي سيعيد تدوير العنف مع دوران الأيام والدول ولكن من مفارقات الموضوع أيضا أنه ربما يجب أن اشكرهم للمساهمة غير المباشرة في غزوات الشاورما وهذا التأثير غير المسبوق على الثقافة والبطون الغربية وعلى دفع المظلومين لمشاهدة عالم جديد ربما يتعلمون منه ثقافة صد الاستبداد ودفعه. 

أيها السيدات والسادة أعلن لكم ومن خلال مراقباتي المتواضعة أن غزوات الشاورما في الغرب قد وصلت للكتلة الحرجة التي لا يمكن التراجع عنها ولا يمكن قهرها أو كبتها وهي بالفعل قد اصبحت جزءاً من النسيج والثقافة الغربية وحتى دعاياتها وتسويقها انتشر في كافة المحطات ويبث خلال اوقات حساسة مثل مباريات كأس العالم وغيره وأن الموضوع أصبح موضوع وقت فقط للانتقال لمراحل اخرى من ازدياد الوزن والانصياع التام لشهوات البطون التي تتبعها شهوات غيرها ،قد وقعوا مسبقا ضحايا لأغلبها، ثم بالتالي سيلحقون بمن سبقهم من شعوب الشرق الذين أمضى الكثير منهم أيامه تابعا للشهوات والأهواء وبين المشاوي والمحاشي وما ورائها حتى سيطر الطغاة والمستبدين مستغلين التهاء الشعوب وانشغالها عن حقوقها وواجباتها. ومن المشهور أنه عندما يصبح بطن المرء أكثر همه وشهوته هي الغالبة عليه فهو إنسان ضعيف يمكن التأثير والسيطرة عليه ويلعب الطغاة على وتر شؤون المعيشة والترفيه واشغال الشعوب المغلوبة في ما يطلق عليه ثنائية "الخبز والألعاب" التي تمثل نمط حياة الرومان في فترة الانحطاط قبيل الانهيار الذي حصل لهم. 

وقد ذكر ابن ابي الدنيا في كتابه الجوع أن أعظم المهلكات لابن ادم شهوة البطن. فيها اخرج ادم وحواء من دار القرار الى دار الذل والافتقار إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سؤاتهما. والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والأفات إذ يتبعها شهوة الفرج ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال اللذين هما وسيلة الى التوسع في النكاح والطعام ويتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات ثم يتولد بينهما أفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء ثم يتداعي ذلك الى الحقد والحسد والعداوة والبغضاء ثم يفضي ذلك بصاحبه الى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء وكل ذلك ثمرة اهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء.

ومن غرائب ما شاهدت على غلبة شهوة البطن فوق قيم ومبادئ بعض الاشخاص دخولهم مطاعم (شاورما وغيرها) مشهورة بولاء اصحابها للطغاة والمستبدين أو شراؤهم من محلات ومصادر تعمل لصالح أوتمول هؤلاء الطغمة الأوغاد الظالمين.

عودة لموضوع الشاورما وغزو الغرب فقد بدأت ملاحظاتي لهذا الموضوع في مدينة ميسيساغا منذ عدة سنوات وقلت لنفسي ربما أن هذا محلي فقط ولكني اكتشفت لاحقا أن هذه الظاهرة انتشرت انتشار النار في الهشيم في عواصم ومدن وحتى قرى كثيرة حول العالم وان هذا الانتشار سيسبق سلاسل مطاعم العالمية الشهيرة - إن لم يكن سبق بعضها بالفعل - وبفضل معلمية "المعلمين" ورائحة الشواء وتقاطر الدهون وحركة السواطيرصعودا وهبوطا  فهذا الانتشار غير مركزي ولا يمكن السيطرة عليه ولا كبح جماحه فقد وصل سيخ الشاورما لوسط لندن وأصبح اقتلاعه اصعب من اقتلاع سيف الملك ارثرالعالق في الصخرة وانتقل هذا السيخ الى نيويورك وتورنتو وشيكاغو وانتشرت فيديوهات عراضات الافتتاح من كل مكان على كل مواقع السوشيال بداية من يوتيوب والفيس بوك ونهاية بمواقع الجرائد المحلية وحتى تم توثيق ذلك في الروايات والقصص منها ما ذكره الدكتور أحمد خيري العمري في روايته الشهيرة "بيت خالتي" نقلا على لسان بطل الرواية انه سينتظر قريبه في شارع كارل ماركس في مدينة درسدن حيث هناك افضل محل شاورما وأبدى دهشته من اجتماع كارل ماركس مع الشاورما في جملة واحدة ولكنه ربما سيدهش أكثر عندما يبحث في تطورموضوع تغلغل الشاورما المقلق حول العالم.

على صعيد أخر وفي رمزية لرجولة الشرق وانها غزوات ثقافية أصبح من "الموضة" والمعتاد بل ومما يجب فعله عند الافتتاح إحضار فرقة "عراضة" باللباس الرسمي الذي ينافس لباس الحرس الملكي البريطاني و اجراء مبارزات بالسيف والترس واطلاق الاهازيج وعبارات الفخر والأشعار التي توثق هذا النصر الكبير ونجاح غزوة ذلك المعلم الذي يوزع لفافات الشاورما الساخنة على الجميع ضاحكا فخورا ببناء وانشاء هذا الثغر والمركز الذي سيكون نقطة انطلاق وتوسع مستقبلي بعد تحويل عدد من العمال الصغار إلى معلمين مخضرمين  ومن الطريف أيضا ان بعض أهازيج هذه المبارزات والعراضات (التي سأرفق بعض الروابط لها اخر المقال) تقال بلغة البلد الذي حصل فيه هذا الفتح العظيم (فتح المحل). 




في الختام وبين الجد والهزل أقول أن تحول الشاورما في الحقيقة هو تحول عالمي شامل موافق للاستهلاك والسرعة والجري المحموم وغيرها من أمور الإنسان المنغمس في الدنيا حتى النخاع وفي اخر فيديو "عراضة" شاهدته كان مطعم الشاورما مجاورا لمحل يبيع الحشيش المخدر فأرسلت لصديقي مازحا "هذا رابط يحوي عراضة احدث محل شاورما وبجانبه محل حشيش في رمزية غير مقصودة للتحول العالمي الإنساني الحاصل". 

-------------------------

دعاية شاورما على بعض القنوات الكندية خلال مباريات كرة القدم: 


عراضة محل شاورمة باللغة الهولندية: 








الاثنين، 6 سبتمبر 2021

تقنية وأشرار(6) - حياة ذبابة إلكترونيه (قصة قصيرة)

تخرج منصور من الجامعة وهو بحدود الثالثة والعشرين من عمره وبعد استراحة عدة أشهر بدأ رحلة البحث عن عمل لكنه لم يوفق بإيجاد العمل المناسب لدراسته في إحدى فروع علم الاجتماع أو على الأقل ما كان يطمح إليه. تنقل بين خمسة وظائف مختلفة خلال ثلاث سنوات ثم انتهى به الحال إلى عاطل عن العمل يتنقل بين المقاهي والاستراحات وسهرات الاصدقاء حتى انفق جميع مدخراته وضاق به الحال فعاود البحث المكثف عن عمل وأتى الفرج أخيرا بعد عدة أشهر حين تم قبوله في مركز لإدارة المعلومات في إحدى الدوائر الحكومية. 

كان العمل الجديد بسيط. أعجبه قصر وقت الدوام وسهولة الأداء. كان كل ما عليه فعله هو استلام بعض الرسائل البسيطة من مديره في العمل ثم إعادة إرسالها إلى أكبر عدد ممكن من المجموعات والأفراد التي كان يتم إضافته إليها أو يُطلب منه محاولة الدخول والانضمام لها إضافة لقائمة من مواقع التواصل الاجتماعي المرتبطة بعدة حسابات. 

في فترة التدريب قالوا له أن ما يقوم به هو واجب وطني للحفاظ على سمعة الوطن أو تشويه صورة أعداء الوطن أو إلهائهم وتشتيت أفكارهم أو حتى غرس أفكار جديدة في أوساطهم. 

تجاوز فترة التدريب بنجاح وأحب عمله الجديد خاصة بعد تجارب السنوات الماضية التي  استهلكت بعضا من عمره. 

أتاح العمل الجديد لمنصور شراء بيت والزواج وأصبح لديه ولدين وبنت وتطور في السلم الوظيفي حتى أنه خلال سبع أعوام ترقى بين عدة أقسام ثم أصبح مديرا لقسم يحوي 20 موظفا وأصبح لديه إطلاع أكبر على ما يجري في ذلك المركز وأقسامه المختلفة التي كان أولها قسم الأخبار العامة الذي يقوم بمجرد نشر أخبار عامة هدفها تحسين سمعة الوطن والقائد ثم كان هناك قسم الأخبار الغريبة التي كان هدفها الإلهاء وإضاعة وقت بعض المجموعات فقط وملحق به قسم الأخبار الحقيقية التافهة التي لا تفيد في شيء إلا إضاعة الوقت وتشتيت انتباه الهدف ومما لفت انتباهه أيضا القسم الديني حيث كان الشغل الشاغل للموظفين في ذلك القسم إثارة المواضيع التي تثير الجدل الديني باستمرار والتركيز على المواضيع المثيرة الجاذبة للناس وكان يعاد تدويرها بشكل مستمر كأنها مجدولة لإبقاء عدد كبير من الناس مشغولين بها عن ما يفعله أفراد عائلة الحاكم وما يحصل من ظلم في البلاد على العباد. 

بعد تلك المرحلة كان هناك قسم للأخبار المضللة التي هدفها غرس معلومات خاطئة أو إثارة بلبلة وجدل وحتى مشاكل بين عدة فئات من الشعوب والأديان والأعراق. 

الذي لم يستوعبه منصور لفترة طويلة هو تفاعل بعض الناس مع كل هذه المعلومات وكيفية تطوعهم لنشرها وحماس البعض لإعادة تدويرها وتحويلها لأحاديث في المجالس والمنتديات والتجمعات مما يضاعف التأثير بشكل كبير.

بعد عشر سنوات من العمل في المركز واكتساب الثقة أصبح لديه بعض الاطلاع على أقسام ومجموعات الجيش والامن والاستخبارات التي كانت توجه كل المجموعات التي في ذلك المركز وغيره وتقوم بالتجسس وتحليل المعلومات. 

خلال تلك الفترة مات قائد البلد الذي قام بتأسيس المركز وتحولت القيادة لشخص أخر كان واضح الاستبداد والقسوة حيث أنه قام بتصفية جميع المعارضين خلال فترة قصيرة وسيطر بالحديد والنار على كل مراكز القوة والتأثير في البلد ومن أهمها مراكز المعلومات بالطبع وأصبح معظم عمل الموظفين يتعلق بالدفاع عن سمعة القائد الفذ المفدى لأن سمعة البلد مرتبطة بشخصه كما أخبروهم وأصبح هناك قسم للمجموعات الخاصة في المركز يقوم بعمليات تتعلق بالتجسس والاختراق وتلفيق قصص وفيديوهات تشوه صورالمعارضين وعائلاتهم أو حتى تصفية بعضهم. 

كان منصور يراقب كل ذلك وكان هناك شيء داخله يرفض ما يحدث ويريد الابتعاد ويشعر أنه مع كل هذه التسميات والمناصب ما هو إلا جزء مما يطلق عليه مجموعات الذباب الإلكتروني ولكن تعقيدات الحياة وقساوتها وقلة الموارد ومتطلبات عائلته كانت تفرض عليه البقاء في الوظيفة، إضافة لتطوره في السلم الوظيفي وإغراء المناصب والترقيات الجديدة. 

كان ذلك أيضا يتطلب منه الدوام لفترات أطول والابتعاد عن أسرته وأولاده وعندما يجتمع بهم أو بأصدقائه القدامى كان يشاهد كيف أنهم مصدقين ومتأثرين بالأخبار التي يقوم المركز بنشرها في أوساط الشعب وهو يعلم أنها مجرد أكاذيب لتلميع صورة القائد وكان ضميره يؤنبه ولكنه لم يكن يظهر الحقيقة لأحد حتى أقرب الناس إليه. كان أيضا يحس أن كل هذا الكذب والتلفيق يؤثر على حياته وأخرته سواء في فقد البركة في حياته المالية وعلاقاته الأسرية أو بعد موته وتفكيره كيف سيكون حسابه عندما يسأل كيف جمع ماله وكيف أنفقه وكيف قضى وقته في الدنيا. كان أيضا يشعر بحسرة داخلية غريبة عندما يشاهد أصدقائه الأحرار الذين اختاروا العمل التجاري أو حتى المعارضين الذين رفضوا الذل وهاجروا وتجاوزوه فكريا وماديا بمراحل كثيرة وكان ينوي التوبه بعد تقاعده أو على الأقل الاستقالة بعد الانتهاء من مشروع بناء بيته الجديد الفخم.

تجاوز منصور الخمسين بعدة سنوات وذات صباح لم يستيقظ من نومه. 

لم يكن به أي مرض ولكن الطبيب الذي أكد موته أخبرهم أن قلبه قد توقف وأن وقته قد حان والأعمار بيد الخالق مع بعض كلمات التعزية اللطيفة.
أجرى أولاده وأقاربه عملية الدفن ولم يستطع زملاء عمله الحضور لانشغال البعض بعمليات جديدة لتلميع صورة إبن القائد المفدى بعد دهسه عدة فقراء بسيارة جديدة والبعض الأخر لأسباب أمنية ولكن حضر واحد من زملاء العمل السابقين الذي استقال من ذلك المركز بحجة ايجاد عمل تجاري حر وعندما سأله أحد الفضوليين، ماذا كان يعمل المرحوم؟ أجاب:

المتوفى كان ذبابة إلكترونية.




الأحد، 24 يناير 2021

سهرات عبر العصور والمسافات - عن القراءة ولم أقرأ.

سألني صديق ما فائدة أن تقرأ هذا الكتاب غير المفيد - من وجهة نظره وهو عن فكر واتجاه لا يعجبه -  وأشار بأن أقرأ في اتجاه محدد أو كتاب معين بما يعتقد أنه يناسبني أو ربما يناسبه...

أثار سؤاله الأفكار في رأسي وورد عشرات الإجابات منها ما ذكره السابقين ومنها من إجاباتي وأفكاري الخاصة وفي ما يلي أهمها بما فيها اقتباسات ممن سبق للتذكير بها والتأكيد على أهميتها:

- أقرأ عن التاريخ لأعرف ماذا وكيف وصل الحاضر لما نحن فيه وأحاول استشراف المستقبل عند تكرار الأفعال نفسها ممن لا يعتبر من عواقب تكرار تلك الأفعال في السابق. قراءة التاريخ هي مشابهة للسير في الأرض والإطلاع على عواقب الأمور فمن نظر اعتبر والسعيد من اتعظ بغيره. في التاريخ ترى عدل الحكام وظلم الملوك وخيانات الخونة وأفول دول وتضحيات الأوفياء وتحول الشعوب من حال إلى حال وتكاد تسمع أصوات الحروب وضجيج بناء الأمم لحواضرها وعواصمها ونصائح الحكماء وأشعار السكارى والزهاد والمحبين ودعوات المساجين والمظلومين وما دبر بليل بين أحاديث القصور والمقاهي.  يقول شوقي: 

اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر *** ضل قوم ليسوا يدرون الخبر

- أقرأ عن الإلحاد والإيمان والليبرالية والعلمانية والاشتراكية والمذاهب والأفكار كلها حتى لا أكون جاهلا عندما أخاطب من يتبنى هذه الأفكار وحتى أخاطبه بلغته وفكره وأسلوبه  فربما أكون أقرب إلى إقناعه بفكرة مفيدة بدل أن أنفره بجهل وعدم معرفة عندما أكلمه باستدلال ديني مثلا وهو أصلا غير معترف بهذا الدين أو ألوم مذهبه وفكره بدون علم حقيقي واستدلال على أصول ونشأة ذلك المذهب والفكر فأصبح في نظره مجرد جاهل يحاول الدعوة لشيء غريب بدون علم ولا حقيقة. 

حين تقرأ عن خلق الإنسان والحيوان والطبيعة والفلك والبحر وكافة المخلوقات ستزداد علما وتدبر العالم وتوقفه عند الأيات سيكون مختلفا عن تدبر الجاهل لتلك الأمور لذلك القراءة العامة والخاصة والمتنوعة والعلم مطلوب لفهم وتدبر كتاب الله بشكل أدق. حتى تقرأ كتاب الله يجب أن تعرف كيف تقرأ أولا وحتى تتفكر في كتاب الله يجب ان تتعرف على  العلوم الطبيعية والإنسانية وكافة العلوم حتى يكون التدبر أعمق وإن كنت جاهلا بكل ذلك بكيف بالله يكون تدبر الجاهل؟ ولكل عصر علمه وجهله ومقاله ومقامه.  

- أطالع الفلسفة وأقرأ عن الفلاسفة ومذاهبهم وإتجاهاتهم لمعرفة تطور هذه الأفكار وتراكمها وكيف تأثر الناس بها وكيف تحورت وتغيرت وناقشها غيرهم حتى وصلت هذه الأفكار إلى عالم الواقع وأصبحت مذاهب لبعض البشر ومسارات لحكومات ومسببات لحرب وسلام ونشأة وارتقاء أو هبوط وانحدار وكما أن للبيان سحر فللكتب التي تحوي ذلك البيان سحر أيضا.

- أقرأ عن السياسة والحكم والديمقراطية والملكية والعدل والظلم لمعرفة الأفضل والأمثل وتبعات كل منها وتأثيره لتجنب الاستبداد والوقوع به ولو فعل ذلك عدد جيد من الناس لأصبح الوعي أكبر بمخاطر الاستبداد والظلم والطرق المثلى لتجنبه ومحاربته وعدم تحوله لجرائم في حق شعوب بكاملها.  من وجهة نظري، السياسي أو أي شخص ينتمي لحزب ولا يقرأ عن ذلك باستمرار فهو لا يستحق أن يكون في هذا المجال. 

- أقرأ الروايات الواقعية للنظر والحياة في عوالم جديدة موازية على نفس الأرض يعيشها أناس مختلفين في بقاع مختلفة وأتعلم عن عاداتهم وتقاليدهم وتعاملهم وأسلوب حياتهم وأقرأ كذلك الروايات الخيالية للهروب المؤقت من واقع أليم أو لتشتيت ذهني مقصود محسوب ومؤقت وربما لعلمي أن كتاب تلك الروايات كتبوا عن حقائق حصلت أحيانا ووصفوها بالخيال لتجنب بطش حاكم أو انتقام ظالم وغيرها من الأسباب كما أن الروايات تشد الشباب الأصغر سنا  للقراءة بشكل اكبر بكثير من كتب غيرها. من يكتب غالبا يكون عنده شجون أو أفكار أو حقائق يريد مشاركتها ولا يصل لمرحلة الكتابة إلا بعد نضوج تلك الأفكار واكتمالها وبالتالي فالقارئ هو المستفيد الأول من هذه الثمار وعصارة الأفكار. والقراءة النقدية تعودك على التحرر من الخرافات والأكاذيب والتفاهة بعد تحري الدقة والبحث عن الحقيقة ومقارنة الوقائع وهذه وظيفة القارئ المجتهد.

- عندما أقرأ عن الفارابي مثلا  أشعر أني أمضي ليلي بالسهر معه حتى لو كان التلقي في اتجاه واحد وكم أحسست في ليالي القراءة الصافية بأني عدت في ألة الزمن للقاء هؤلاء المفكرين والكتاب حتى لو كان بيني وبينهم مئات وألاف السنين والأميال. علوم ومعارف، أسمار وأفكار ولقاءات جميلة مرت مع الفارابي وروسو والجاحظ وبيغوفيتش والبستي ودان براون والحكيم وباولو كوليو والعقاد وهكسلي والسباعي ودي لابويسيه والكواكبي والغزالي والشنقيطي والكثيرغيرهم وللأسف هذه السهرات المفيدة الممتعة لا يدركها الكثير من الناس الذين ربما ألهتهم لقاءات البطون والشهوات والمصالح أو الأحاديث العابرة والجدالات في مقاهي الزمن المنسية. ربما لنفس السبب وصف المتنبي الكتاب بالجليس في قوله:

أعز مكان في الورى سرج سابح *** وخير جليس في الأنام كتاب

- القراءة لاتخلو من متعة وتسلية وطرف لكنها مثل الرياضة تحتاج في بداياتها لبعض الصبر والدربة للوصول للمهارة والإتقان والتوازن بين الواجبات الأساسية وبالنسبة لي هي من المؤشرات على مدى صبر وعقل الشخص عند التعامل معه ولاحظت أنه يغلب على من لا يصبر على قراءة عدة صفحات النزوع إلى قلة الصبر أو الحكم بسرعة على ظواهر الأمور. القراءة هي إحدى المؤشرات النفسية على طبيعة الشخص أو هذا ما أشعر به من وجهة نظري الخاصة إضافة أنها طريقة للتنبيه على أهمية الوقت للقارئ الحريص في مقارنته بين أي فعل يفعله وبين إكمال الكتاب الذي يقرأه. 

- أقرأ  لأحسّن ديني ومهاراتي اللغوية والكتابية والعقلية والثقافية أو أتعلم لغة جديدة وأوسع مداركي وثقافتي وتذوقي الأدبي وأضيف خبرات جديدة ولتحسين ورفع مستوى الحوار مع الغير ولأعرف أكثر عن الدين والدنيا وأشحذ فكري وأتعرف على تواريخ الأديان والمذاهب الأخرى وتمييز الأحكام والأعراف ولمعرفة العدو من الصديق واكتساب الفضائل والحسنات واكتشاف بلاد وأماكن جديدة وصنعات ومهارات ومعرفة من يكتب بخبث لينشر الشر ومن يكتب لينشر الخير وفي سياق مشابه قال الشاعر:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه  *** ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه

ومن كلام ابن الجوزي في الكتاب قوله: "فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة. وقال: وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأني وقعت على كنز".
والقراءة أحسبها من نعيم الحياة الدنيا لأنها تهب القارئ أكثر من خبرة حياة واحدة كما قال العقاد (القراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة).
في القراءة أيضا راحة نفسية وإشغال للنفس والوقت بما يفيد وتأثير على الأطفال في البيت يقربهم من القراءة ويمنحهم معاني وأهداف.

القراءة هي من أهم الأدوات لاكتساب المعرفة وهي سلاح التعلم الذاتي الذي تزداد أهميته يوما بعد يوم وهي واجب أخلاقي وديني وإنساني على كل فرد يريد أن يتفاعل مع دينه ودنياه. الخيار لك في أن تفقد تلك الأداة وتبقى أعزلا بدون فكر أو قلم أو أن تبدأ في القراءة وتشعر بالأدب والتواضع عندما ترى تلك المكتبات الضخمة وملايين الكتب التي لا يكفي عمر واحد لاستيعابها.

محمود الجسري

25-1-2021



إنتهى المقال وللمستزيد أرفق النصوص البديعة أدناه عن فضل الكتاب للجاحظ المحب للكتب والذي فارق الحياة بين كتبه:

"صامت ما أسكتّه، وبليغ ما استنطقته ،نعم الجليس والعدّة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدّا؛ إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه. ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس ... وبعد: فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة تقلّ في حجر، وناطقا ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء!! ومن لك بمؤنس لا ينام إلّا بنومك، ولا ينطق إلّا بما تهوى؛ آمن من الأرض، وأكتم للسرّ من صاحب السرّ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة   .... ولا أعلم جارا أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلّما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، ولا أقلّ جناية، ولا أقلّ إملالا وإبراما، ولا أحفل أخلاقا، ولا أقلّ خلافا وإجراما، ولا أقلّ غيبة، ولا أبعد من عضيهة، ولا أكثر أعجوبة وتصرّفا، ولا أقلّ تصلّفا وتكلّفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكفّ عن قتال، من كتاب. ولا أعلم قرينا أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أخفّ مؤونة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كلّ إبّان، من كتاب.  ....والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك، والمستميح الذي لا يستريثك ، والجار الذي لا يستبطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنّفاق، ولا يحتال لك بالكذب. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بنانك، وفخّم ألفاظك، وبجّح نفسك، وعمّر صدرك، ومنحك تعظيم العوامّ وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغرم، ومن كدّ الطلب، ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقا، وأكرم منه عرقا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء.

والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلّ بنوم، ولا يعتريه كلال السهر. وهو المعلّم الذي إن افتقرت إليه لم يخفرك ... ومتى كنت منه متعلّقا بسبب أو معتصما بأدنى حبل، كان لك فيه غنى من غيره، ولم تضطرّك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء. ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلّا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارّة بك، مع ما في ذلك من التعرّض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صغار الناس، وحضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الرديّة، وجهالاتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة، ثم الغنيمة"

الأحد، 10 يناير 2021

تقنية وأشرار (5) - الهيمنة التقنية والخصوصية وملحقاتها.

 يجري الأن جدل كبير حول تطبيقات المراسلة والمنافسة بينها وبحسب مشاركتي في مجموعة تقنية تحوي ما يقارب 200 تقني في مختلف تخصصات المعلوماتية جرى نقاش لعدة ساعات وانتهى بتصويت سأشارك نتائجه لاحقا في هذا المقال. تبع ذلك عدة نقاشات مع مجموعة أصدقاء وقد طلب مني أحد الأصدقاء تلخيص الموضوع لتعم الفائدة ونساعد الأخرين في اتخاذ القرار المناسب. 

ترددت كثيرا قبل وضع هذا المقال ضمن سلسلة تقنية وأشرار ولكن بما أن الموضوع تقني والهيمنة لها علاقة قوية بالسلطة المطلقة على شي ما والسلطة المطلقة ارتبطت عبر التاريخ بالمفسدة المطلقة كل هذا جعلني ألخص الموضوع وأضعه ضمن هذه السلسلة ربما للعلاقات التي ذكرتها أو لاستشراف شخصي للمستقبل التقني إن وصل التحكم في عدة منصات لسلطة واحدة مطلقة. 

في خلاصة سريعة بسطرين بدأ الموضوع بتغيير منصة الواتساب لتفاصيل الخصوصية وشروط جديدة تتطلب الموافقة أو سيتم المنع من استخدام التطبيق وتبعها بسرعة تغريدة من إيلون ماسك باستخدام منصة سيغنال مما أدى لنزوح جماعي من واتساب لسيغنال وغيره ونشرت عدة صحف ومواقع هذه الأخبار منها الجزيرة وغيرها. 

أعود للنقاط التي تم سردها أونقاشها في تلك المجموعة التقنية:

- تم مشاركة مقارنة بين ميزات 12 تطبيق على الأقل (مرفق رابط في أخر المقال #1) وتم التركيز على بعض هذه المزايا أو العيوب. 

- اقترح البعض تطبيقات "واير" و"ثريما"  لقوة التشفير التي بها لكن لم تكن قوة التشفير من متطلبات المجموعة الرئيسية والخصوصية ليست هي النقطة الوحيدة للقرار لعدة أعضاء.

- أكثر من نصف تطبيقات المراسلة تستخدم خوادم في أمريكا باستثناء تليغرام في الإمارات مع إدارة روسية وتطبيق Threema في سويسرا إضافة لتطبيق BiP في تركيا.

- نقاط المعلومات للمستخدمين التي يحصل عليها الفيسبوك عند إضافة معلومات الواتس  ستزداد بشكل كبير بينما استخدام تطبيق بديل لن يعطي كل تلك القوة أو المعلومات لنفس الشركة عن نفس الشخص  (مرفق رابط به صورة توضح ذلك أيضا #2) 

- تم التذكير بمقولة "عندما لا تدفع نقودا لمنتج ما فأنت المنتج."

- تم التذكير بأن الأهل والأصدقاء يستمعون لنصائح للتقنيين المحترفين وبالتالي من الواجب على القدوة أن يبحث عن الأفضل وينصح به. 

- بالنسبة للكثير تم استبعاد منتجات سيرفراتها في بلاد عربية لانتشار الاستبداد وعدم احترام الخصوصية وكانت الأولوية في ما يتعلق بالخصوصية للدول الأوروبية مثل سويسرا وألمانيا والدول الاسكندنافية.

- قوة الفيس والواتس وسيطرتهم على عدة وسائط يجعلهم في موقع هيمنة عالية بحيث إذا لم يعجبهم تصرفات أحد الأشخاص على منصة فإنه يتم فصله من كل المنصات التي يملكوها والأن هو الوقت المناسب لاتخاذ قرار أو على الأقل نقاشه وعمل الخطوات اللازمة.

- لماذا لا يسعى الناس لعمل موازنات بين هذه التطبيقات مثلما يحصل في التصويت لحكومة ما بحيث يبقى هناك حزب معارض لدرء السيطرة المطلقة وهل من الحكمة أن تضع كل البيض في سلة واحدة؟

- أكد البعض على قوة واتس وأنه يجب الالتزام به لأنه الأشهر والأقوى والجميع يستخدمه وأن كل التطبيقات قد تشارك وتبيع بياناتنا وهذا ما يساهم في تطويرها وتم الرد أيضا أن استخدام منافسين يساهم أيضا في المنافسة والتطوير بشكل مختلف وربما بشكل أكبر وكلهم مجبر في قوانين الدول الديمقراطية أن يعلنوا عن قوانين الخصوصية.

📊استمرت فترة التصويت ل 24 ساعة وفي ما يلي النتائج التي وصلنا إليها:





السؤال التالي هو ما الذي يجب عمله الأن؟ 

من البديهي أن نقل كل شيء وكل الأشخاص هو عملية صعبة وفعلها بعشوائية قد يسبب انقسامات كثيرة وارتباك لذلك كان الاقتراح هو أن يتم ذلك تدريجيا وليس بالضرورة أن يتم بسرعة.
تم إنشاء مجموعة على تطبيق سيغنال وستكون مبدئيا مجموعة احتياطية للتجمع وعندما يزيد العدد بها عن 50% من عدد أعضاء مجموعة الواتس الحالية سيتم تفعيلها ووضع مجموعة الواتس كمجموعة ثانوية احتياطية حتى ينتقل بقية الأعضاء كليا للمنصة الجديدة.

هذا سيعطي وقتا كافيا للجميع للتجهيز والنقل التدريجي وقد يستمر هذا الموضوع لفترة طويلة ولكن أصبح لدينا على الأقل خطة بديلة وخيار بديل يمكن استخدامه عند جاهزيته الكاملة.

---------------------------

مراجع وروابط متعلقة: 

1- مقارنة بين أشهر منصات الرسائل: 

https://inteltechniques.com/messaging.html

2- مقارنة بين نقاط البيانات التي يتم تجميعها عبر عدة تطبيقات مراسلة:

https://9to5mac-com.cdn.ampproject.org/c/s/9to5mac.com/2021/01/04/app-privacy-labels-messaging-apps/amp/

3- مقالة من فوربس:

https://www.forbes.com/sites/zakdoffman/2021/01/09/stop-using-whatsapp-after-facebook-apple-imessage-and-signal-privacy-backlash/?sh=36c2cfd16cf5


الجمعة، 8 يناير 2021

تقنية وأشرار (4) - الاختراقات الأمنية

 -المقدمة التالية مكررة في هذه السلسلة  لتأكيد أهمية دافع التطور التقني-

"التقنية هي عامل مهم للدفع والتطويرالحضاري والثقافي ويوجد الكثير من الأدلة الشاهدة على ذلك، ولكن هذا لا يمنع أيضا أن تكون في يد الأشرار لمحاولة استغلالها شر استغلال، فهي في النهاية أدوات مثلها مثل الكثير من الأدوات التي تستعمل للخير والشر. السطور التالية تحاول إلقاء الضوء على جانب مظلم من التقنية للتعريف والتوعية. "

تشعبت دراسات الحاسب الألي للعديد من الفروع والتخصصات منها البرمجة والشبكات وقواعد البيانات والبيانات الضخمة وتقنيات التخزين إضافة للهندسة الالكترونية للمعالجات والذاكرة ثم تخصصات أنظمة التشغيل والعوالم الافتراضية وغيرها ولكن من أبرز التخصصات التي تسارع تطورها بعد انتشار شبكة الانترنت هو مجال الأمن الالكتروني أو أمن المعلومات الالكترونية.

حتى هذه التخصصات جرى تقسيم بعضها نظرا لتسارع تطورها وزيادة مجالات تطبيقها حول العالم فمثلا البرمجة أصبح لها تخصصات مثل برمجة التطبيقات على الحاسبات أو تطبيقات خاصة بخوادم الإنترنت وهناك مبرمجين مختصين بتطبيقات الهواتف أو الألعاب أو حتى برمجة تطبيقات العوالم الافتراضية وبالمثل يتم تقسيم اختصاصات الأمن المعلوماتي لعدة مجالات منها مجالات وقائية مثل برمجة الحماية من الفيروسات والبرمجيات الخبيثة وفيروسات الفدية وأمن التطبيقات أو أنظمة التشغيل أو أمن الشبكات أو أمن البيانات والتشفيروحتى تخصصات الاختراق والهجوم الالكتروني الذي يوجد أقسام مختصة به في معظم جيوش العالم وأجهزتها الاستخبارية وحتى بعض العصابات الالكترونية.

أشهرأنواع الاختراقات هو محاولة الاختراق والسيطرة عن بعد سواء بإيجاد ثغرة في التطبيقات المستخدمة أو نظام التشغيل أو بعد زرع برمجيات تسمح بذلك عبر استغلال ثغرة مسبقة أوالهندسة الاجتماعية أواستخدام برامج تخمين كلمات السر وفك الشفرات واعتراض المعلومات في السيرفرات أوالكابلات باستخدام عتاد خاص بذلك أو حتى البحث في المهملات للحصول على كلمات سر ومعلومات هامة يمكن استخدامها لتحقيق ذلك الاختراق. 
أنفقت الشركات والحكومات مبالغ ضخمة لتطوير برمجيات حماية وتشفير وجدران نارية لكشف هذه الاختراقات وصدها وهذا معظم ما يعمل عليه المتخصصين في الأمن المعلوماتي ولكن هذه الاحتياطات كلها ستفشل ومليارات الدولارات تصبح لا قيمة لها إن لم يكن هناك حماية حقيقية مادية - Physical security - بمعنى أمن المكان نفسه الذي تتواجد به المعلومات والأجهزة وعادة ما يعتمد خبراء الأمن المعلوماتي على خبراء أمن المنشآت أو الأمن العام في تأمين هذه الجهة وبالتالي تصبح نقطة ضعف لديهم أو حتى يتم تجاوزها وإهمالها في بعض الحالات.

أوضح مثال لذلك هو ما حصل مؤخرا خلال اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي ودخول أفراد عشوائيين لمكاتب نواب وموظفين حكوميين ووصولهم لأجهزة الكمبيوتر والشبكات والبيانات دون رقيب أو حسيب. هذه الحالة تضع جميع موظفي الأمن المعلوماتي في موقع صعب جدا لأن عليهم افتراض أن جميع الأجهزة مصابة أو مخترقة بعد ما جرى وليس فقط أجهزة الكمبيوتر بل كابلات الشبكات والأجهزة الملحقة والمكاتب وغيرها وعليهم عمل تنظيف أو "تعقيم إلكتروني" كامل - إن صح التعبير - لكل الأجهزة وشبكاتها وملحقاتها وحتى فحص لأجهزة التنصت في جميع المكاتب والغرف والصالات وهذا العمل سيستهلك جهد كبير لعدة أيام أو أسابيع وربما أكثر. هذا كله غير الأجهزة التي سرقت وأصبحت خارج المبنى وربما سيكون هناك أجهزة أو جهات معينة مستعدة للحصول عليها بمبالغ مغرية.


هذا الحادث يذكرنا بأهمية أمن المنشآت والحماية المادية للأجهزة - Physical security - على جميع المستويات سواء للحكومات أو الشركات أو الأفراد.
 عادة تعي الحكومات والشركات الكبيرة هذه المخاطروتدمجها في سياساتها لإدارة المخاطر وخطوات التعافي من الكوارث واستمرارية العمل ولكن دائما يحدث مالا يخطر على بال أحد أو شيء لم يعمل حسابه كما في المثال السابق.

حماية المعلومات هو بنفس أهمية الحفاظ على نسخ احتياطية دورية -محلية وبعيدة-  لكل البيانات الهامة سواء على المستوى الشخصي أو مستوى الشركة وهي مسؤولية مالك تلك البيانات بالدرجة الأولى. من أهداف هذا المقال وسلسلة تقنية وأشرارهي التذكير بالمخاطر لنشر الوعي والفائدة. 


محمود الجسري 
8-1-2021





الأحد، 4 أكتوبر 2020

حبيس الكلمات ورهين التسميات.

الموقف الأول: 

- عندما شاهد حيوانا يحاول الدفاع عن نفسه ،يقفز هاربا من الأسر ويستشرس في الخروج من حصاره ويهاجم من يحاول حبسه ، قال: هذه غريزة طبيعية. لكن عندما شاهد إنسانا يفعل نفس الشيء ويدفع الظلم عن نفسه قال: هذا لا يجوز أن يثور على حاكمه. لأنهم أخبروه أن ذلك المظلوم قد ثار وربطوا كلمة الثورة بشيء سيء وبرمجوه على ذلك فنظر للكلمة وتجاهل الفعل وسببه. 
نعم أطلقت وسائل الإعلام عبر التاريخ الحديث كلمة "الثورة" بقصد أو بغير قصد على الخروج لدفع الظلم الواضح ضد المستبد المجرم واستخدم وعاظ الجهالة وعلماء السلاطين ومطبليهم ذلك الربط في الكلمات شر استخدام في وأد أي محاولة لرد الظلم ودفعه أو حتى شجبه. وكان هذا الفعل ،كعادة أفعال المستبدين وأعوانهم، ضد الإنسان وحريته بل هو مما ساهم في تكوين الجماعات الإرهابية لعدم استطاعة المجتمع التعبير عن نفسه وفضح ظالميه. 

الموقف الثاني: 

- عاد ذلك التاجر الغني المستقر من سفره وقال ما فعله هؤلاء الثوار الجهلاء غير مخطط وهو تسرع وقد أفسدوا كل شيء بسبب إنخفاض مصادر دخله وتقلص ثروته وهو الذي لم يعاني الظلم الذي عاناه أولئك الضعفاء وإن حصل واقترب منه بعض ذلك الظلم كان يشتريه برشوة الظالمين بالمال الوفير الذي لديه ولم يكن أغلب المجتمع يستطيع فعل ما يفعله ذلك التاجر الغني.  نعم لقد تسرعوا ولم يخططوا ولكنه أيضا كان أنانيا في رشوته للظالم ليحمي نفسه غير ملتفت لما يحصل لغيره.

الموقف الثالث: 

- قال دنيء الهمة: "كنا عايشيين" وقد كان راضيا بأن يأخذ الأخرين حقه (وهو ربما لا يدري أن المال العام حقه وحق المواطنين أصلا) أو ربما كان لديه مناعة من منظومة الظلم بحكم قرابة أو علاقة ولا يستطيع استيعاب عدم رضى الأخرين بما رضي به. نعم "كان يعيش وكذلك كان يعيش الأرنب في جحره".

الموقف الرابع:

- "خربوا البلد" ذلك المهاجر الذي يعود للبلد ليصيف كل عدة سنوات ويقضي شهرا ممتعا في ذلك "المصيف" حيث يشتري رضا الظالمين ورفاهيته وبعض السعادة المؤقتة وحتى رضا أٌقاربه ومعارفه ببعض الأموال والهدايا ويعود لهجرته بدون أن يعيش فترات الظلم والمعاناة اليومية. نعم لقد خربوا له مصيفه المفضل. 

الموقف الخامس: 

قالت: "زيوان بلدي ولا قمح الغريب" وقلت لها ولكن في البلد يوجد قمح فاخر يسرقه البعض ويأكلوه فلماذا أقنعوكي بالزيوان وتحاولي إقناع الأخرين به؟ 

--------------------

في كل موقف من هذه المواقف هناك كلمات ومصطلحات وتعبيرات تخذيلية أو تمويهية أو تشتيتية. سمها كما شئت ولكن انتبه لها.                       

كلنا نصبح رهائن لبعض التسميات ولكن إذا نظرنا بعمق وتجاوزنا التسميات والكلمات فربما نرى الصورة الكاملة وسنرى أن ذلك المظلوم المتسرع الذي عمل المستبد على تجهيله وتطويعه عبر عقود وساهم أولئك التجار على إفقاره وبرمجه المعلمين والوعاظ بشكل خاطيء وعلموه بعض العلم وأخفوا عنه البعض الأخر. ذلك المظلوم وصل لأخر ما يمكن أن يتحمله من ظلم حتى بلغ السيل الزبى ولم يبق أمامه إلا الذل والموت فاستحضر غريزة القطة المحاصرة واستجاب لفطرته كإنسان وصرخ صرخته متألما ثم خرج طالبا للحق محاولا دفع الظلم عنه بما يعلمه وبما يستطيعه وبقدراته المحدودة وعلمه البسيط وتسرع بحكم عمره وتأذى لقلة خبرته ولكنه خرج غير أبها بالنتائج التي نريده أن يحسبها ونلومه إن تسرع وقد نتعجب ونتجادل في مدى خبرته.

السؤال الأخير والموقف الأخير هو موقفك: لقد جرى ما جرى وذلك المظلوم قد صرخ فمع من ستقف؟ هل ستبقى دائرا في دائرة لومه وتبرر للظالم؟ هل ستبقى رهين التسميات وحبيس الكلمات؟ أم ستنصره ضد الظالم ما استطعت؟ 

 


الاثنين، 21 سبتمبر 2020

خلاصة كتاب نظام التفاهة - ألان دونو(لا تكن إمّعة)

ملاحظة شخصية على ترجمة العنوان: كان الأجدربالمترجمة استخدام كلمة الإِمَّعة أو الإِمَّعية بدل كلمة التفاهة فهي -من وجهة نظري- أدق وأقرب لما يحاول المؤلف أن يعبر عنه وللقارئ أن يحاول استبدال الكلمة كلما مرت معه في الخلاصة أو الكتاب ليتضح المعنى. 

- الإنسان التافه أو الإِمَّعة هو الشخص الذي تستطيع أي جهة ما نقل تعليماتها من خلاله بما يسمح بترسيخ نظامها حتى لو كان متخصصا أو محترفا في مجاله. هذا الشخص الذي يغير رأيه باستمرار ويتبع عبارة "عليك أن تلعب اللعبة" على رقعة الشطرنج الاجتماعي يرسّخ نظام التفاهة تدريجيا في ذلك المجتمع حتى يسيطر على كل شيء.  لعبة القوانين والتسلق والسرقة وغيرها يمكن ملاحظتها في العديد من المؤسسات والمجالات والوظائف. 

في الفصل الأول "المعرفة" والخبرة بيّن المؤلف كيف أن علاقة الجامعات اقتربت من الشركات التجارية وابتعدت عن عملية المعرفة الحقيقية وأن بعض الأساتذة أصبحوا سماسرة يبيعون نتائج الأبحاث للممولين وأن إخضاع الأبحاث الجامعية لمعايير المشروعات الخاصة هو شي ضار بهذه الأبحاث كما ذكر أن تزايد حملة شهادات الدكتوراه في الغرب يمكن ان يفسر السبب وراء كون العديد منهم عاطلين عن العمل وتطرق لتورط الكثير من الجامعات في استثمارات سيئة في جزر الجنان الضريبية. 


في الفصل الثاني: "التجارة والتمويل" ذكر الكاتب عدة أمثلة توضح أن السوق الاقتصادية يلعب بها خوارزميات بطريقة لم نعد نستطيع فهمها وأن النظام الاقتصادي يتم التلاعب به ويتم ايهامنا انه يوضع موضع التطبيق في قرارات الاشخاص الذين نعتمد عليهم من ذوي السلطة وأنه كلما تراجعت الأوليغارشية لعاداتها السيئة (فساد - تدليس - تفاهة) سارع "الخبراء" (الإمعات) الذين يتقاضون رواتبهم منها إلى إنقاذها خاصة المصابين بالطمع أو مرض المال حيث أن المال يصنع لهؤلاء الناس ساترا يخفي كل شيء والنقود تصبح القيمة المطلقة في عالم التفاهة وطبقة الأغنياء يراقبون جبال الذهب التي يكنزونها بينما من حولهم في ضنك العيش.

تحدث ألان عن مشاكل الاستعمار ومخلفاته في بعض دول أفريقيا وعن نهب مواردها وسيطرة المستعمرين على الحكومات المحلية ومحاربة الاكتفاء الذاتي وحتى استخدام المؤسسات غير الربحية للسيطرة والنهب. كما ذكر الحركات العمالية وهل هي سياسية أم لا وكيف أن بعض الدول تسمح بحركتها طالما لا تمس إطار السلطة. 


في الفصل الثالث - "الثقافة والحضارة" يفرق الكاتب بين الإقتصاد الروحي أوكما يصفه فرويد(الاستثمار الغريزي - مدخرات الطاقة) والإقتصاد المادي الذي يتكون من صفقات تجارية. الأول هو الفعال بمراكمة رأس المال ففن صناعة المال هو مسألة حوافز ثم يبين كيف أن النقود تخدم الفن وتستخدمه في نفس الوقت لتخبر عن نفسها باعتبارها وسيلة للتأثير في التفاهة (الإمعية) في أعظم حالاتها.  

يقارن الكاتب بين من يبحثون عن المال للتحرر من الجهود السيكولوجية والتراخي الأخلاقي (الأثرياء غالبا) وبين من يبحثون عنه كأجر للمعيشة ويأتي معه الصمت "اخرس انا ادفع لك" أو "ابتسم أنا ادفع لك" أو "الزبون دائما على حق".وهذا يشير إلى أن النقود هي عامل قمع وشراسة وعنف ينكره الأثرياء بينما هم يباشرونه ويكبته الفقراء فيما بسلمون أنفسهم له. 

يستشهد الكاتب بمقولة أدورنو وهوركهايمرفي أنه لا حاجة للسينما والاذاعة ان تتظاهرا بعد الأن بكونهما فنا. حقيقة الأمر هي انهما لا تعدوان ان تكونا اعمال تجارية وأنه لا اعتبار للفنانين فالعمل يفرض عليهم وفقا لأهداف السوق. وبعض الفنانين يلعبون اللعبة أو يتم التلاعب بهم من خلال قضايا إنسانية أو مشاعر لتحويل الأنظار عن القضايا السياسية أو الفساد.  أما التلفاز فهو يحد من التفاعل الاجتماعي ومحفز لتجارة الاستهلاك التي تقدم منتجات تحل المحل العاطفي للرابطة الاجتماعية.

 وينتقل لما ذكره هربرت ماركيوز عن أنه اذا كانت جميع طبقات المجتمع تتمتع بنفس أساليب الرفاهية فهذا لا يعني اختفاء الطبقية بل هو تأكيد لأي درجة يشارك المُسيطرعليهم في الاحتياجات والإرضاءات الضامنة للإبقاء على الطبقات المهيمنة. 

في الفصل الأخير "ثورة - إنهاء ما يضر بالصالح العام" يقول الكاتب أن الدعوات إلى التصرف والثورة تطلق في حالة ارتباك ظاهر ويعبرعن الخوف من ثورات مفتعلة يصحبها تغيير شكلي من قبل نخبة تحرص على التأكد من عدم تغير أي شيء وبالتالي يستمر الفساد والضرر بالصالح العام.

كتشخيص إضافي يقول أننا الأن نطور معرفة وتسمية الواقع الذي يوجد به الفساد والتفاهة (الإمعية) مقابل معرفة حركات الانعتاق ( red squares - occupy - spring uprisings) التي ،برغم عدم خلوها من الاخطاء، تستمر في محاولتها لتقويض وتخريب المؤسسات التافهة. 

خلال فصول الكتاب ذكر المؤلف العديد من المؤلفات والأفلام مثل: فلسفة النقود - سادة الندى Masters of the dew - المساعدة القاتلة - نقد العنف - زمن المهرجين - ديالكتيك التنوير - الرجل ذو البعد الواحد - المزيفون - الفهد - الأرض السلطة الحقوق. The Wanted 18 - Lets make money - White collar وغيرها. 


في الخاتمة "سياسات الوسط المتطرف" ضرب أمثلة عديدة على أن قيم الجناح اليساري قد فرغت من محتواها بحيث أن الكثير أصبح في الوسط ولم يعطوا أي أولوية لما يمكن ان تكون عليه المساعي الجمعية. وبالنسبة للجناح الليبرالي فقد ركب على موجة الأقليات ومقاومتها التاريخية واستخدمها كبضاعة لعرضها في واجهاتهم الانتخابية. إنهم لا يهتمون بكون الجامعة تعمل وكأنها معمل للسجق ما دامت هيئة التدريس والطلبة قد ضُمن لهم الاعتراف بهوياتهم المحددة. ينتقل للفوضوية ويقول أن من يميل إليها يكون بسبب وحشية الرأسمالية. ويبين كيف أن ردود أفعالهم وسلبيتهم وسخريتهم تلقي الضوء على سلبيات الأنظمة المسيطرة. 

أما بالنسبة للوسط المتطرف extreme center (الذي يمثل الإمعية بوضوح) فهو ،بحسب تقديم المؤرخ بيير سيرنا،  تناسخ مجموعة من قالبي السترات المكونين من سياسيين هادئين راجحي العقل ولكنهم يحافظون على مناصبهم من خلال التمسك بكلمتهم والتراجع عنها باستمرار. روحة وجيئة من دون توقف. وتدريجيا تم الانتقال من فترة كان المرء فيها مخلصا لقناعاته حتى لو كلفته حياته إلى فترة فاسدة سمتها هشاشة وتغير الكلمة كل يوم. ثم تطور ذلك مؤخرا إلى اللغة الخشبية "لا تعتبر قد رجعت في كلمتك إن لم تقل شيئا".

من ضمن التشخيص يؤكد الكتاب أننا نعاني حدة نقص في الفكر الجمعي وأن الطبقة الوسطى مشتتة وملهاة بالكثير من الأمور منها الاستهلاك والأسعار والمزايا المهنية. 

تحدث أيضا عن "دين الشركة" و"دين العلامة التجارية" وعبادة تلك العلامات كونها "ضرورة للمستهلك أو إيمان منه". إضافة لإجبار الموظفين على تبني ممارسات الطائفة وفرض دورات في التفكير الايجابي ومطالبتهم ان يكونوا بشوشين في هذا "العالم الشجاع الجديد" . أما "المواطن" فقد انحدرت به الحال الى "فرد" تتقلص قيمته احيانا لحد يضطره للتساؤل حول مصدر السلطة.  التي تعني بالنهاية قوة عدائية. السلطة اصبحت غالبا شركات أو اشخاص اعتباريين-قانونيين. 

يؤكد الكاتب أنه يتم تغطية وتمويه العديد من أسباب المشاكل الرئيسة بأغطية وهمية وإخفاء الأسباب الحقيقية وأن الحال وصل لأنه لا يمكن لأحد في هذه الأيام أن يشجب تفاهة أو توسط الأشخاص الذين يحاولون اخذ مسافة متساوية من الجميع.

في أخر صفحة يسأل الكاتب بصيغة يائسة ما الذي يمكن عمله حول شرور زماننا حيث اقتصاديات شركات البترول أشبه ما تكون بالمافيا والانتاج الاعلامي مصمم للتلاعب بناء على اساس من التجارب العصبية وقارة من البلاستيك تتشكل في المحيط الهادي وتوترات تثور بلا هوادة في مناطق الصراع الجيوسياسي؟ ما الذي استطيع عمله أنا الشيء الصغير النكرة المجبر على أكل البيتزا المجمدة بداخل شقتي المكونة من نصف سرداب واعيش في محيط من معدل البطالة المرتفع والايجارات العالية ووحشية الشرطة؟

الجواب هو توقف عن السخط وانتقل لما بعد ذلك. إعمل بلا هوادة لخلق قضايا وجيهة. التق مع أخرين في تجمعات بخلاف الطائفية والشللية. إسخر من الايديولوجيات، اختزل المصطلحات التي تريد البروباغندا كتابتها في جوهر ذواتنا وحولها الى موضوعات مجردة للتفكير. تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات وحاول خلق بنى تشبهنا. كن راديكالياً. (بمعنى أن تنظر للب الأمور وجوهرها وأسباب المشاكل الرئيسية ولا تكن إمّعة).