الخميس، 16 أكتوبر 2014

التغيير - قصة قصيرة

التغيير - قصة قصيرة
محمود الجسري


استيقظ خالد صباحا بعد نوم متقطع و بدأ عادته الصباحية بالنظر من نافذة غرفة نومه المطلة على الشارع الهادئ قبل النهوض من سريره.
كان معظم ما يراه خلال استلقائه و نظره من تلك النافذة الصغيره هو جزء من شجرة السرو الخضراء دائما شتاء و صيفا و كان يجد عند النظر إليها هدوءاً و صفاء ذهنيا كل صباح.

قام متثاقلا يفكر بجدول يومه و استذكر ما يجب عليه فعله اليوم قبل عطلة نهاية الأسبوع -ولا شعوريا- كان اتجاهه الأول نحو جهاز صنع القهوة في ركن المطبخ. وضع عدة ملاعق من القهوة و ضغط زر التشغيل و راودته فكرة ايقاف الجهاز و غلي بعض القهوة -التركية- كما اعتاد قبل سنوات و لكنه نفى هذه الفكرة من رأسه مخاطبا نفسه:
لقد اعتدت على هذه القهوة الغربية و نظر لعبوة القهوة وقرأ Arabica beans - للدلالة على جودة القهوة -  و قد استسغت و أحببت هذه الطريقة في صنع و شرب القهوة اكثر من الطرق الماضية بعد قضاء كل هذه السنين في الغرب.
كان يحدث نفسه وكأنه يبرر لشيء في داخله سبب اختياره لهذه القهوة و انتبه عقله الواعي لهذا الحوار فلم يعارضه بل استمر به قائلا:
- تلك القهوة تذكرني بأيام كثيرة و سنوات مضت فيها جمال كثير و مذاق خاص و فيها أيضا ظلم كثير دفعني للهجرة و الهرب بعيدا. إنها تذكرني باجتماع الأهل و الأصدقاء و الذكريات الجميلة معهم و هي أيضا تذكرني بمئات الفناجين الصباحية التي امضيت وقتي بعدها أبحث عن عمل مناسب لي و دهشتي كل مرة عند حصول غيري لوظائف أنا اجدر بها لكن لم يكن لي صلة قربى مع أصحاب القرار و لم يكن 
لي تلك -الواسطة الثقيلة- التي ممكن ان تغير الموازين الطبيعية و تهب عملا لشخص غير مؤهل أصلا بل لشخص قد لا يكون له أي علاقة او علم بالتخصص المطلوب.

أطلق تنهيدة طويلة ثم اتجه إلى جهاز الكمبيوتر في الغرفة المجاورة لمشاهدة بريده الالكتروني. 

سبع رسائل جديدة كانت ست منها متعلقة باشتراكات دورية و نشرات تتعلق بمجال عمله و رسالة من سعيد - صديق عمره - كما كان يمازحه - الذي لم يتواصل معه منذ عدة سنوات فدفعه الفضول لفتح رسالة صديقه ففعل و قرأ التالي:

" أخي و صديق عمري خالد , عذرا للبعد و الجفاء في الفترات الماضيه فأنت مشغول بعملك و نحن هنا مشغولون بالكفاح اليومي للقمة العيش كما تعلم جريان الأمور هنا. 
أظنك تتابع ما يجري في بلادنا من توريث للحكم تحت مسميات مختلفة و قد وصل الكثير لقناعة أن أي شيء هو أفضل مما نحن عليه حاليا و لكن كما تعلم يا صديقي ان التغيير صعب و هناك دائما طبقة معينة مستفيدة من الأوضاع الحالية بدون النظر للظلم و الاستغلال الذي يجري و ستحارب هذه الطبقة التغيير قدر الإمكان فهم لا يهمهم الا مصالحهم و متعتهم الخاصة فعلى سبيل المثال لا الحصر كم وكم شاهدت ابنائهم يسرفون بل يبذرون الدولارات في غير اماكنها و أكثر ما كان يثير غيظي هو تبذيرهم الأموال للتصويت لهواة الغناء و ما يطلق عليهم المطربين الناشئين - وغالبهم قد شوه الفنون والطرب- على بعض القنوات المنحطة بينما هم يعلمون أن جيرانهم و أبناء مدينتهم يكدحون كدحا في سبيل العيش الكريم. هل تذكر صديقتنا رشا؟ كانت تقول انه مالها و هي حرة به حتى عندما ترى الأمهات و الأطفال يبيعون الأشياء البسيطة لشراء الخبز على الطرف المقابل للمقهى الذي كنا نجلس عنده بينما هي تنفق بضغطة زر ما يجمعوه في يوم كامل على هاتفها الذي تغيره كل عدة أشهر بسعر يعتبر ثروة لهؤلاء المساكين. 

ربما كانت محقة بشكل مجرد و لكن ألا تعلم أن أباها المسؤول في الشرطة يتلقى الرشاوي بشكل يومي؟ ربما يكون كلامها صحيحا اذا كانت في بلد فيه عدل بدون قمع حتى للأرزاق.. ربما....

أرسل لك هذه الرسالة لأنني قد تعبت و قررت التغيير أيضا مع الكثير من أبناء المدينة الذين سبقوني في القرار و لا ندري ما النتائج و لكن في نظرهم و نظري حتى احتمالات المجهول هي أفضل من المعلوم الحالي.
أمل ان تمضي الأمور بخير و أن نراك قريبا كما كنا نجتمع سابقا. تحيتي و مودتي لك."

وصلته رسالة صديقه مع ذكريات كثيرة و لم يعلم ماذا يفكر او يفعل او يرد وعادت به الذاكرة للقاء قديم بينه و بين سعيد حين كان يشرح له الفرق بين الإسراف و التبذير و كيف أن الإسراف هو زيادة الصرف و مجاوزة الحد المعروف في الأشياء الجيدة مثل الإسراف على الطعام أو اللباس فوق الحاجة و المقدار اللازم أما التبذير فهو إنفاق النقود و إتلافها في الأمور السيئة التي تسبب الضرر و هو خسارة تامة مثل صرف النقود على الأمور المحرمة و الضارة بشكل عام.
أتته رائحة القهوة الطازجه المنعشه مع صوت خفيف ينبهه أن القهوة جاهزة فقام و سكب كوبا من القهوة ثم عاد مسرعا لقراءة الرسالة مرة ثانية.

بعد عدة رشفات و قراءة ثانية للرسالة أدرك حال صديقه التي وصل اليها كما كان هو قد وصل لتلك المرحلة سابقا و عرف ما سيقوم صديقه بفعله و اعتراه مشاعر متفاوته من الشوق و الخوف و السعادة و لم يعرف ما أنسب رد لتلك الرسالة سوى الكلمات التالية:

"لا داعي للاعتذار يا صديقي فأنا أدرى الناس بأحوالكم و بالنسبة لقرارك فأنا معك و دائما أثق بك و على استعداد لأي مساعدة و سأتواصل معك لاحقا عند نهاية عملي. تحياتي و مودتي لك"
نظر للوقت ثم تناول حقيبته و توجه إلى عمله.

                                         ----------------------

أمضى خالد وقته منشغلا في عمله و مر الوقت بسرعة غريبة حتى أنه قضى بعض الوقت الإضافي لينهي تسجيل بعض الملاحظات و المراسلات قبل أن يخرج من مقر الشركة و قد لاحت الشمس للغروب. 
صعد في سيارته و تذكر رسالة صديقه  فأخرج هاتفه النقال و طلب رقم بيت سعيد و بعد عدة رنات سمع صوت أم سعيد كما هو لم يتغير يذكره بصوت والدته و بعد تبادل الكثير من التحيات  سألها متلهفا: 
- كيف حال سعيد؟ أين هو؟ ممكن  أكلمه؟
- كما أخبرك يا بني  قراره بالتغيير كان قطعيا و سريعا.
 لقد سافر جوا الى قبرص بعد رسالته لك مباشرة و بعدها سيأتيك تهريب عن طريق البحر أدعو الله أن يسلمه و أرجو أن تستقبله و تبلغني في أقرب فرصة.

بعد فترة من الصمت أجابها بالتأكيد و حياها مودعا ثم أغلق الهاتف مع غصة في حلقه.

                                     ----------------------