الأحد، 30 أكتوبر 2016

فن هدر الوقت

                        
كيف يمكنك إضاعة سنين من وقت الناس بضغطة زر؟ 
كيف تكون نيتك حسنة وتؤذي مئات وربما ألاف الناس بدون قصد؟
كيف يمكن أن يكون الإنسان حرا شريفاً وبنفس الوقت يساعد مستبد وديكتاتور ومن يعاونه على نشرما يريد نشره أو مساعدته في إلهاء عشرات الألاف وتبديد وقتهم وتشتيت انتباههم؟ 
كيف يمكن مساعدة ظالم وأجهزته بالعمل ضد نفسك وأقاربك وأبناء بلدك وأنت غافل تضحك وتظن أنك تفعل خيرا؟
الأسئلة المشابهة كثيرة ولكن هل تعلم(ي) أن الكثير من الناس وربما أنا وأنت وقع في ما تم ذكره أعلاه بشكل مباشرأوغير مباشر؟
و للإجابة عن تلك الأسئلة يمكن متابعة المقال التالي الذي غالباً لن أعطيه حقه كاملا فالموضوع في تطور مستمر كما هو حال التقنية وأجهزة التواصل وأقل شيء يمكن فعله هو الوعي بالنقاط التي سيتم ذكرها ومحاولة الانتباه لها وتذكرها عند ضغط أي مشاركة أوإرسال رسالة (خاصة لمجموعة من الناس). 
                                   ----------------------

قبل فترة قصيرة تقل عن 20 سنة كان الشخص عندما يريد شيئا من شخص أخر يقوم بالاتصال به هاتفيا بشكل مباشر وعادة تكون مكالمة قصيرة مركزة لها هدف أساسي ومجموع المكالمات اليومية في أقصى حد لا يزيد عن دقائق كمعدل عام وكان من المشهور أن الهاتف يستخدم للضرورة فقط أما اليوم فبعض الإحصائيات تشير الى أن استخدام الهاتف الذكي يصل لمدة 5 ساعات يوميا في أوساط الشباب في بعض المجتمعات - ولكن لنأخذ الإحصائيات الأكثر محافظة - وهي تشير الى معدل (2) ساعتين يومياً وهذا يعني شهر كامل في السنة وهذا يعني معدل 5 سنوات لكل 60 عاما من حياة الشخص المستعمل للهاتف الذكي. 

بعد هذا التمهيد البسيط نقول هل يحرص معظمنا على هذا الوقت أو على الأقل هل سألنا أنفسنا أين تذهب هذه السنوات التي تزيد عن معدل سنوات التعليم الجامعي بل تشكل نسبة عالية من متوسط عمر الإنسان؟   

نحن نعيش في عصر تواصل إجتماعي لم يسبق له مثيل عبر التاريخ البشري وتتوفر لدينا العديد من أدوات التواصل (من أشهرها الواتساب والفيسبوك وغيرها) وكثير منا يستخدم هذه الوسائل بطريقة نافعة - أو يحاول ذلك على الأقل - ولكن يوجد أيضا الكثير ممن لا يحسب حساباً لا لوقته ولا أوقات الأخرين سواء لعدم علم أو لاستهتار أو لتمضية وقت فراغ بالنسبة له غير مدرك أن هذا الوقت هو وقت مهم جدا لغيره ومنهم الجاهل الذي يظن أنه يحسن صنعا وهو يدمر بدون دراية ولا معرفة. 
و مما لاينتبه له الكثير أنه يوجد أيضا جهات مهمتها الرئيسة هي الإلهاء والإغراق المعلوماتي وتشتيت الرأي العام وإضاعة وقت الناس لأهداف عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي: 

- ادخال معلومات خاطئة في أذهان الألاف أو الملايين من الناس لتغيير التفكير الجمعي. 
- تحقيق كسب مادي للناشر في زيادة عدد المشاهدات التي يكسب منها حتى لو كان العنوان جذاباً كاذباً. 
- الاستخفاف بعقول العامة ذوي الثقافة المحدودة ونشر معلومة ما ثم معلومة مضادة لزعزعة الثقة أو تحقيق هدف خبيث للناشر (للعلم بعض المجموعات الملحدة تستخدم هذه الحيل كثيرا للتلاعب والضحك والتندر على المتدينين من كافة الأديان).
- فتح باب للنفاق الاجتماعي وفتح الباب للمرائين لاكتساب كاريزما "الشيخ" او الزعيم الديني حيث يقوم البعض بنشر المواعظ كل يوم أو كل ساعة ليقال فلان صاحب دين ولا نستطيع الدخول في النوايا هنا ولكن نتكلم عن من ينشر موعظة في غير مكانها المناسب وأقرب مثال هنا عند دخول شخص على مجلس يتم الكلام به عن موضوع طبي مثلا فيدخل ويقول يجب عليكم ذكر الله كذا مرة أو يضع حديثا مختلفا عن الموضوع الذي يتم النقاش به والمعروف أن لكل مقام مقال وهذه الفئة غالباً لا تراعي المقام ولا المقال وهذا عدا عن المعلومات التاريخية المغلوطة وتسخير البسطاء بكلمة "انشرها ولك الأجر" .
- التخدير العام أو إشعار البعض أنهم قاموا بواجب ما بطريقة وهمية وأوضح مثال على ذلك هو الطلب من عدد كبير من الناس قراءة ذكر أو ورد ما لبعض الناس المهددين بالقتل وفعلا يتم النشر على اوسع نطاق وغالبا يتم عمل المطلوب بطريقة ألية يشعر المتلقي بعدها بأنه قام بما عليه القيام به ويرتاح ضميره وكان يمكن القيام بأعمال مختلفة قد توقف القتل او تفضح القاتل ولكنه تماشى مع أجندة التخدير العام وريح ضميره. 
- تشتيت الرأي العام عن جريمة إنسانية تحصل في مكان ما كقتل او قصف عدد كبير من المدنيين بينما فريق استخباراتي-معلوماتي تابع للقاتل ينشر فضيحة عن ممثلة او خبر عنوانه جذاب جدا ومضمونه فارغ. 
- نشر الأحاديث الموضوعة والأكاذيب الدينية والقصص الخرافية وتكرارها لجعلها حقيقة في أذهان الناس.
- تشتيت انتباه مئات الأشخاص بتنبيهات الرسائل الجديدة وإضاعة وقتهم بوضع مشاركات أو تعليقات في غير مكانها (مجموعة متخصصة تقنية أو طبية مثلا ويضع شخص ما نكته او دعاء أو حتى تحية عامة بدون هدف) وقد ذكرنا أن لكل مقام مقال. 
- وغير ذلك من الأهداف والأجندات المعروفة وغير المعروفة. 

للأسف الشديد الكثير من الناس يساعد في هذا عند إعادة النشروالإرسال وخاصة للمجموعات الكبيرة التي معظم أفرادها بالتالي يقومون بإعادة النشروالإرسال أيضا وبما يخص هذه النقطة يقول المفكر والفيلسوف نعوم تشومسكي ما يلي:
“إستراتيجيّة الإلهاء هي عنصر أساسي في التحكّم بالمجتمعات، وهي تتمثل في تحويل انتباه الرّأي العام عن المشاكل الهامّة والتغييرات التي تقرّرها النّخب السياسية والاقتصاديّة، ويتمّ ذلك عبر وابل متواصل من الإلهاءات والمعلومات التافهة. "

و حتى نتخيل حجم المشكلة والوقت الضائع لنفترض أنه تم نشر فيديو من المحتوى الذي تم ذكره أعلاه وأعاد نشره وإرساله عدة أشخاص وتكررت عملية النشر عدة مرات وكان مدة الفيديو دقيقة واحدة فقط وشاهده مليون شخص على الوسائل المختلفة - والرقم متواضع هنا - بعد إعادة نشره وإرساله وبذلك وخلال دقائق وبضع ضغطات نشر نكون قد أضعنا مليون دقيقة من وقت الناس وهذه تعادل تقريبا سنتين من الوقت (694 يوما تحديدا) وهذا الوقت يمكن عمل الكثير به فكل هذه التنبيهات والمشاهدات لها مفعولها وكم تم تشتيت انتباه أب أو أم عن أبنائهم أو صديق عن صديقه أو محب عن محبوبه أو حتى سائق عن طريقه وهذا موضوع منفصل أيضا له ما له من تفاصيل لا يتسع المقال لها هنا. 

و يوجد أيضا موضوع إضافي سننوه له بدون الدخول في تفاصيله وهو الإدمان على فتح الهاتف ومشاهدته ومتابعة الرسائل الجديدة وما فات منها ومتوسط ذلك هو 3 مرات في الساعة أي بمعدل 30 مرة يوميا على الأقل. 

و حتى لا نطيل على القارئ العزيز ويكون هناك بعض الفائدة نورد بعض النقاط التي قد تكون مفيدة بناء على خبرة شخصية طويلة في مجال المعلوماتية: 

- النقطة الأولى هي الوعي العام بما تم ذكره في المقال والتفكير قبل نشر أي شيء وطرح سؤال ما هو نفع ما يتم نشره وماهدفه؟. 
- المجموعات غير المفيدة التي لا هدف محدد لها تضيع لك الكثير من وقتك وتشتت افكارك فاخرج منها إن لم يكن لها فائدة واضحة محسوسة ومباشرة وطبعا يمكن أيضا البحث عن مجموعات مفيدة لها أهداف واضحة وفائدة مباشرة. 
- وقتك أثمن وأهم من أن يضيع في القيل والقال وقراءة المنقولات التي قد تكون صحيحة او خاطئة.
- قبل نشر أو إعادة نشر أي محتوى تذكر أنه "بحَسْبِ المَرْءِ مِنَ الكَذِبِ أنْ يُحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِعَ." وأن هذه مسؤولية كبيرة خاصة إن كنت في مجموعة كبيرة وأن هذا المحتوى قد يصل للألاف ولكل شيء حساب.
- إن وصلك خبر كاذب فكذبه فورا ونبه مرسله حتى يتوقف عن نشره. 
- لا تكن مجرد موظف غير مباشر عند ظالم وإن لم تكن متأكداً من هدف المحتوى أو الرسالة فلا تعد نشرها وإرسالها .  

و في الختام لكل شيء منافع ومضار وأكثر شيء نستخدمه حاليا في حياتنا اليومية هو وسائل التواصل فلنجعلها وسيلة نفع خالص ما أمكننا ذلك حتى نحافظ على ما تبقى من الوقت الذي يمر بسرعة ولا يمكن تعويضه. 



الخميس، 31 مارس 2016

في اللاحزبية الدينية السياسية

في اللاحزبية الدينية السياسية
محمود الجسري

هل تم عرض أحد الأحزاب أو المجموعات المغطاة بصبغة دينية عليك و تم ترغيبك للانضمام لهم مؤخرا؟ ربما حصل هذا سابقا و ربما سيحصل لك مستقبلا و في ما يلي بعض الأفكار العامة لتقليبها و التفكر بها لمعرفة التصرف و الاختيار الأمثل لك أو لمن يهمك أمره.  
يجب التنبيه في البداية أن الموضوع لا يحدد أو يستهدف حزب معين بذاته أو يركز على فئة معينة  و لا هو ضد العمل الجماعي  بل هي مجموعة أفكار عشوائية لا تستهدف أي أحد و تشجع الجميع على التفكير عدة مرات قبل الارتباط بأي جهة و هذا شيء يفترض أن يكون جيدا لجميع الأطراف
و للتوضيح المقصود هنا بالحزب السياسي الديني هو: 
"مجموعة منظمة من الأفراد يمتلكون أهداف وآراء سياسية متشابهة بين بعضهم ذات صبغة أو غلاف أو تغطية تحوي تفاسير دينية (ليست بالضرورة متوافقة كليا مع ما اجتمع عليه مجلس أعلى لعلماء الأمة) وقد اتفقوا عليها لتبرير تصرفاتهم و أهدافهم (ممكن بعض هذه التبريرات خاصة بهم و تفسر بطرق مختلفة عند غيرهم)  و هم يعتقدون أنهم أصح من ما تجمع عليه الأمة أو أكثر وعيا من غيرهم بالسياسة و بالدين و تفاصيله ويهدفون إلى التأثير على السياسات العامة من خلال العمل على تحقيق الفوز لمرشحيهم بالمناصب التمثيلية أو استقطاب المزيد من الأشخاص لدعمهم و تطبيق ما يؤمنون به حتى لو  خالف تيار الاجتهاد الإسلامي و مصالحه و خالف اتفاق بقية المجموعات حتى لو كانت ذات صبغة دينية أو قائمة في الحكم أو أكثر منهم عددا.

في بدايات معظم الأديان (و منها الإسلام) لم يكن هناك تحزبات متعددة من نفس الدين بل كان الجميع ينتمون للدين نفسه و يجتمعون على الأفكار أو "الفكرة" الأولى الرئيسة فقط و في المقالة التالية سنركز على موضوع التحزبات في الدين الإسلامي للتفكر و أخذ العبرة و ربما الوصول لنتيجة تساعد الشباب في اتخاذ قرار بهذا الخصوص.
و يجب أن نذكرهنا أنه كان هناك وجود ل قبائل وأطياف مثل قريش وبنى هاشم وبني أمية و يوجد المهاجرون والأنصار و طبعا لم يكن أحدها -في البداية- ينعزل عن الأخر أو يتعالى عليه أو يختلف معه بل كانت كلها تصنيفات قبلية أو مكانية أو مبنية على أحداث معينة و لم تكن تحزبات دينية أو سياسية (بمعنى لم يكن هناك سعي للمنافسة على القيادة بينها في وجود الرسول عليه الصلاة و السلام) و لم يكن هناك تفسيرات وتأويلات مختلفة بل كانت فكرة العقيدة واحدة عند الجميع
و بعد هذه البداية الأولى يمكن ملاحظة أن التكتلات الحزبية السياسية الدينية المنفصلة عن التيار العام أو الأمة الكاملة بدأت بالظهور بشكل خاص بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان وهي أشبه بما يتعارف عليه اليوم بالأحزاب أو الجماعات أيضاً وكان الجامع بين تلك الجماعات هو الموقف السياسي وتصور الحل الإسلامي للخروج من الوضع الحرج الذي وصل إليه حال الأمة الإسلامية آنذاك ، فظهرت عدة فرق في ذلك الوقت و استمرت في التتابع و التزايد و الانقسام حتى وقتنا هذا و لا أدرى الإجابة لسؤال أحد الأصدقاء:
- هل ظهور الأحزاب هو الذي أدى إلى الفتنة أم ظهور الفتنة هي التي أدت إلى ظهور الأحزاب؟
و لكن الفتنة الأولى و الفتن اللاحقة كلها ارتبطت بطريقة ما بمثل هذه التجمعات و ربما كانت أحد أسباب التدافع أو ربما هي من أسباب إنهيار الأمم و هذا ما يدل عليه التاريخ عادة بشكل أوضح

الملفت للنظر أيضا أن بعض هذه التجمعات يرفض أن يكون ما يطرحه اجتهادا بل يزعم أنه الحق المطلق و بالتالي فإن جميع التجمعات الأخرى هي على خطأ و من الملفت أيضا أن بعض التغطيات الدينية للمسميات أصبحت مبالغا بها بشكل كبير منذ تسميات بعض الخلفاء في نهاية العصر العباسي  مرورا بفترة ضعف الأندلس ثم فترة  "االحاكم بأمر الله"  الفاطمي و نهاية ب أحزاب تقرن اسمها بالله في عصرنا الحالي و تساعد المستبدين في قتل الأبرياء و هذا أصلا يتنافي مع الدين كله و مثال صارخ على تعارض المصالح مع الدين بل و تقديم المصالح على الدين
و في سياق هذه المبالغة نذكر بالوزير والشاعر الأندلسي ابن عمار في قوله:  
مما يزهدني في أرض أندلـس  --- أسـمـاء معتضـد فيها ومعتـمـد
ألقاب مملكة في غير موضعها --- كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

الفكرة الأولى  لهذا المقال هو أنه لا ينتبه أو ربما لا يريد أن ينتبه معظم مصنعي وقادة الأحزاب الدينية الإسلامية إلى أنهم ربما يخالفون السنة النبوية الشريفة و سنة الخلفاء الراشدين (في موضوع تقسيم الأمة الواحدة) و ربما حاولوا ايجاد الحجج الكثيرة جدا لتبرير إنشاء الأحزاب السياسية الدينية -المعرفة في أول الموضوع-  و لكن الأمثلة واضحة في الأمر بالتمسك بسنة الرسول و الخلفاء الراشدين و النهي عن الإنقسام و التقسيم (التي هي نتيجة طبيعية قد تكون مباشرة أو غير مباشرة لنشوء الأحزاب) و للتبسيط المختصر يمكن القول أن الانقسام الأول حصل عندما انشئ حزب جديد و لم ينضم منشئه للحزب الذي قبله و تستمر هذه الحركة في الحصول و التكرار مع وضوح مخالفتها لأوامر و تعليمات الدين.

الفكرة الثانية: الحزب الديني السياسي يجب أن يكون ضمن أهدافه طلب الدنيا -وهذا حق- ولكن المشكلة أنه غالبا ما يحصل التعارض بين الأهداف الدينية و الدينيوية سواء شاء هذا الحزب أم لم يشأ و الأمثلة عبر التاريخ كثيرة منها ما هو في بدايات التاريخ و ما قاله عمرو بن العاص لمعاوية بعد توليه الخلافة طالبا لولاية مصر :" يا معاوية، قد أحرقت كبدي بقصصك، أترى إن خالفنا عليا لفضل منا عليه، لا والله ! إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، أما والله لتقطعن لي من دنياك أو لانابذنك، فأعطاه مصر" و منها ما نراه حاليا في جري و تبعية بعض الأحزاب الدينية السياسية خلف المستبدين أو الدول الظالمة لمجرد أنها تدعمها بالمال و غيره على حساب كلمة الحق و أمثلة إضافية من قتل بعض الأحزاب الدينية السياسية لمسلمين أخرين لمخالفتهم الرأي أو الاتجاه السياسي أو المصالح
طبعا عند اتباع المصالح و تقديمها عن قول الحق يلام الجميع سواء كان الحزب ديني او لا ديني و لكن اللوم يكون مضاعفا على الحزب السياسي الديني كونه خدع و نافق الكثيرين من مؤيديه للوصول لما يصل إليه هذا مع إضافة أنه يشوه فكرة الدين و ينفر الكثيرين منه عند تقديمه لمصالح قد تتعارض مع المبادئ

الفكرة الثالثة - محور الانعزال و البعد عن مجموع الأمة و هذا سيحصل عاجلا ام اجلا لكل حزب فالكثير من الأحزاب الدينية انعزلت عن المجموع العام بتأثيرات كثيرة منها محاربة بعض الكارهين لها او استبداد المستبدين أو حتى استمالة بعض الجهات الحاكمة لهم لاستخدامهم في أجندات و أهداف خاصة أو ضعفهم في التسويق و إظهار من يعاديهم لهم بمظاهر شيطانية معينه و غيرها الكثير جدا من الأمثلة القديمة و المعاصرة و هذا االانعزال يجعل الحزب يعمل بشكل تدريجي لا شعوري في اتجاه مصلحة أفراده الخاصة فقط و يبعده عن العمل باتجاه الصالح العام و يخلق إما نظرة علوية عند أفراده أو نظرة تخوف منه عند عامة الناس

الفكرة الرابعة - أثبت التاريخ أن معظم هذه المجموعات و الأحزاب غالبا ما تفرخ أو ينتج عنها بعض الأفراد "المتحمسين جدا" لتطبيق أفكار مجموعاتهم حتى لو خالف هذا التطبيق جميع مبادئ الدين و الإنسانية بمعنى أن الغاية تبرر الوسيلة و يندفع هؤلاء الأفراد المنشقين لعمل الكثير من الأفعال التي تثير غضب الشارع العام و يفتحوا عشرات الجبهات على بقية أفراد الحزب بشكل يسبب أذى و ضرر كبير لفئات كبيرة من الناس حولهم و لأخوتهم السابقين في الحزب نفسه و هذا الموضوع خطير لأنه يشوه صورة الأمة كلها و ليس ذلك الحزب فقط خاصة في العصر الحالي الذي أصبح من الممكن لأي خبر صغير في قرية نائية أن يعم أرجاء المعمورة في دقائق

الفكرة الخامسة هي أنه عند استحضار تاريخ جميع الأحزاب الدينية فسنلاحظ الفشل و زيادة الفرقة و الضعف لدى الأمة فقد حصل المزيد من الانقسامات و كثرت الاختلافات في الرأي و قد خلق هذا عداوات كثيرة لم تحل لا بالنقاش و لا بالسلاح و قد حصل أن يقتتل أفراد الحزب الواحد مع بعضهم أو مع غيرهم و هم جميعا يقولون باعتقاد نفس العقيدة و لكن يختلفون في التفاصيل و قد أدى هذا لانقسام وتعدد الكثير من الأحزاب الدينية و كل حزب أو فرقة عندهم شيوخ و فتاوي جاهزة و بالطبع سيقول عن نفسه أنه هو الأصح و الأخرين أقل صحة أو اتبعوا أهوائهم و يحضر الأدلة على ذلك

السؤال الذي يرد هنا هو لماذا غالبا يعطي كل حزب الأولوية لزيادة عدد أفراده و تكبير حجم الحزب لينافس الأخرين بدل أن تناظر هذه الأحزاب بعضها البعض و يُحًكموا أطرافا خارجية مشهور لها بالعدل و الإنصاف و من ثم فإن الحزب الأقرب للحق هو من يضم الأخر (خاصة في بدايات التأسيس) و بذلك  تبدأ العودة لصف واحد بدل عشرات و ربما مئات الفرق؟  و الجواب الذي يرد هو أنهم لا يريدون فعل ذلك ربما لمصالح خاصة أو للتنافس على الدنيا و المكاسب بدل تقديم المبادئ أو غيرها من الأمور التي لا تخفى على قيادات هذه الأحزاب

و نلفت الانتباه هنا أن حال معظمهم هو كحال من يفشل في مخاطبة الجمهورثم يهرب لمخاطبة الأفراد وهذا أصلا عكس ما حدث في بدايات الدعوة حين تم مخاطبة الأفراد أولا ثم انتقلت الدعوة لمخاطبة الجمهور و قد يقول قائل و هذا ما تفعله الأحزاب و لكن للمتأملين عن قرب من السهل معرفة أن كل حزب يركز على أفراده أكثر بكثير من تركيزه على مخاطبة الأمة كلها و يسعى ل أدلجتهم بما يتوافق مع أصول و قوانين ذلك  الحزب و يخاطب الأمة في حالة التسويق لنفسه و ليس الإصلاح العام لهم و الخلاصة هنا أن الفشل في مخاطبة الجمهور كله يؤدي الى الهروب لمخاطبة افراد محددين فقط
و للمزيد من التوضيح لنفرض أن حزبا يرفض حكم الجمهور ويريد فرض  فكره و دستوره ولكنه مرفوض من قبل أغلب الجمهور و الإشكالية هنا ان الجمهور هو من أباء و أبناء و أخوة و أقرباء أعضاء هذا الحزب و الحلقة المفرغة هنا أن اللوم الرئيسي في عدم وعي هذا الجمهور بفكرة الحزب يقع على عاتق أعضاء الحزب نفسهم و أقرب تشبيه لذلك هو أن شخصا  ترك أولاده و أقربائه و جيرانه لسلوك طرق الفساد و خرج يلوم المجتمع كله على فساده و نسي أو تناسي مسؤوليته الأساسية وهي نشر الفكرو العلم قبل لوم المجتمع و قبل وضع مئات المشاريع لحزبه و إهماله المشروع الأول و الأهم و هو وعي و علم وفكر الناس.  
من البديهي إذا أن يكون نشر العلم و الفكر للمجتمع كله أولى من نشر فكرة مجتزأة و الدفاع عنها أو فرضها على الناس كنظام شامل عليهم جميعا وبعد تشرب الجميع ذلك الفكر و الرقي به يمكن الطلب من كافة الناس في المجتمع اختيار النظام و الدستور المطلوب و بطبيعة الحال لن يكون هناك وجود لخلافات رئيسية  لتوافق الجميع أو الأغلبية العظمى على الفكرة.
و لكن إذا تم العكس فهذا سيكون مجرد إثارة فتن و خلافات و دفع لمزيد من الانشقاق و التفرق و هذا ما وقع فيه معظم الأحزاب و الفرق

الفكرة الأخيرة هي عن لعب السياسة و السياسيين مع الدين و قد تم استغلال الكثير من الأحزاب من قبل سياسيين لكسب أصواتهم و ركوب الموجة و لم تعتبر هذه الأحزاب أو غيرها من هذا التاريخ بل أن بعضها انسجم في لعبة المصالح و خلط المبادئ مع الفوائد و أصبح الكثير من الأفراد المثقفين الواعين لما يدور في حيرة من أمرهم

في الختام أقول أن من يهمه فعلا  أمر المجتمع و يريد الصلاح له و يريد اثبات نفسه  فيمكنه ذلك بالعديد من الطرق و طبعا أهمها ما يكون عملا جماعيا متخصصا يساهم في تطويرالتعليم مثلا و المساهمة في عمل الجمعيات التي تبني الانسان و فكره و ثقافته و علمه و بناء الثقة بين الناس و مساعدة المحتاجين لعمل او تطوير ذاتي (كمثال منظمات المجتمع المدني) و الكثير جدا من الطرق التي تثبت أن هذه المنظمة أو المجموعة هو فعلا جهة فاعلة للخير مع جميع المجتمع و هذا هو ما يؤدي للتغير و إيمان الناس به و لا ننسى هنا ضرورة الوقوف ضد الاستبداد و المستبدين و التوعية المستمرة له.

الذي أنصح به نفسي -و من يهمني أمره- أن يساعد المجتمع في ما سبق ذكره و يبقى بعيدا عن أي تحزب مغطى بشعارات عاطفية أو معاكسة للمنطق و التطور و الاجتهاد و الأهم من هذا كله الأحزاب التي لا تخاطب الجميع مع كونها منهم و فيهم في نفس الوقت و تعزل نفسها عن كامل المجتمع و لا تضمن عدم الاستبداد الذي دمر أمما كثيرة عبر أمثلة التاريخ

السبت، 30 يناير 2016

هل الثقافة رفاهية؟

هل الثقافة رفاهية؟ 
محمود الجسري

لمعرفة الإجابة يجب أولا أن نضبط المصطلحات ونعرف معنى الثقافة ومعنى الرفاهية المقصودين في عنوان المقال. 

أما الثقافة بالمعنى العام في معجم  اللغة العربية المعاصر فتعني "علوم ومعارف وفنون يدركها الفرد" وفي معجم الغني الثقافة العامة هي " مُجْمَلُ العُلُومِ وَالفُنُونِ وَالآدَابِ فِي إطَارِهَا العَامِّ " ويوجد تعاريف أشمل يمكن تطبيقها على وصف المجتمع وتستخدم عند الكلام عن الحضارات والعلوم الاجتماعية منها تعريف الثقافة بأنها "مجموعة من القيم المشتركة بين مجموعة من الناس ، بما في ذلك السلوك المتوقع والمقبول من الناس ، والأفكار ، والمعتقدات ، والممارسات ." ويوجد تقسيمات وتعريفات إضافية تخصيصية خارج الإطار العام مثل "ثقافة علمية وثقافة وطنية وثقافة مهنية وغيرها..".
و لضرورة التركيز مع سياق المقال ولعدم تشتيت القارئ في تعاريف كثيرة سنبقى مع التعريف المكرر في أكثر من مصدر وهو أن الثقافة بالنسبة للفرد هي "علوم ومعارف وفنون يدركها الفرد".

أما المعنى العام  لكلمة رفاهية في معجم المعاني الجامع  فهي "رغد العيش" وفي المعجم الغني كلمة رفاهية تعني "في عَيْشٍ نَعيمٍ ، رَغيدٍ ، سَعَةُ الرِّزْقِ". 
و يوجد معنى دارج عامي شعبي يلمح لمعنى رفاهية بإنها شيء غير أساسي ومن الكماليات التي يجب أن لا تكون على سلم الأولويات وربما حصل بعض الخلط عندهم في معنى الرفاهية ومعنى الترف الذي يدخل في إشباع الحاجات غير الضرورية. أما نعيم العيش ورغده فيشمل الكثيرمن الضروريات وليس الماديات فقط بل تشمل السعادة والهناء.

بعد التمهيد أعلاه وضبط المصطلحات يمكن أن نسأل أنفسنا الأن هل الثقافة رفاهية؟ وإذا وضعنا التعاريف المذكورة يتم تحويل جملة السؤال إلى:
 هل العلوم والمعارف والفنون  -حتى لو كانت عامة غير متخصصة-  التي يدركها الفرد هي من مسببات رغد العيش وسعته؟  

لا أظن أن الكثير سيختلف في الإجابة الإيجابية على السؤال ولكن للمزيد من التوضيح يمكن القول أن غير المتخصص في أي علم سيحتاج للثقافة العامة حتى يعلم ما يهوى ومايريد تعلمه من العلوم وأي طريق هو الأنسب له ليتخصص به وإذا كان لا يريد التخصص أصلا بسبب تعلقه بتجارة او مهنة فالمزيد من  العلوم والفنون والمعارف  ستفيده على الأقل للتواصل مع غيره إن لم تفده في تطوير عمله وتجارته أما الشخص المتخصص فهو يحتاج للثقافة العامة ليصل إلى عيش أكثر رغدا وسعة وقد تكون ضرورة ليتوسع في علمه ومداركه ويحقق أهدافه  بشرط أن لا تصرفه عن إكمال وإتمام تخصصه. ويوجد أيضا شرط أخر لغير المتخصص وهو أن يكون قد حقق حاجات البقاء الأساسية -التي سنذكرها لاحقا- ونجح في تخصيص بعض الوقت لاكتساب هذه الثقافة.

 ويمكن طرح الأمثلة التالية للمقارنة:
عالم متخصص بالفيزياء وثقافته ضعيفة يلقي محاضرة مقابل عالم متخصص في نفس مجاله مع ثقافة عالية وعلم في فن الخطابة والأدب واللغة وغيرها. أيهما ستكون محاضرته أجمل وأكثر تماسكا واقناعا؟ 
ولنقارن بين عالم متوسط المعرفة في علوم الدين وفي نفس الوقت هو مثقف من طراز رفيع مع عالم ديني أخرعلامة في الدين ولكن ثقافته العامة ضعيفه ويريد أن يدعو ويكلم طلاب العلوم التقنية أو الطبيعية أو العلوم السياسية أو الاجتماعية والفلسفية بدون أن يعلم كيفية تفكيرهم أو أي شيء عن علومهم وثقافتهم. النتيجة الطبيعية أن الأول سيصل لنقاط تلاقي كثيرة والثاني ربما أوجد نقاط خلاف بدل الإقناع لأن معرفة طريق وحيدة للنقاش غالبا ما تؤدي لتعنت وعناد ومن ثم خلاف وجفاء.

في الماضي (و حتى بعض الحاضر) كان الكثير من المجتمعات المتخلفة عن ركب الحضارة تعتبر الدراسة والمدرسة ترفا من الكماليات وأن الأولى هو العمل في الحقل أو المصنع لإنتاج ما هو ملموس وفعلي بدون الانتباه أن تطوير العقل ،غير الملموس والحسي على المدى القصير، يختصر ويحقق الكثير عند وصوله لمرحلة الوعي المناسب للبيئة والمجتمع. 
ومن المفيد هنا أن نذكر ترتيب حاجات الإنسان حسب ما صنفها  هرم ماسلو للحاجات الإنسانية وهي 
1- الحاجات الفسيولوجية مثل التنفس والطعام والنوم ...
2- حاجات الأمان مثل الأمن والسلامة الجسدية ....
3- الحاجات الاجتماعية ومنها علاقات الأسرة والصداقة
4- الحاجات الذاتية والتقديرو منها الثقة والاحترام والقوة 
5- الحاجة لتحقيق الذات وهي استخدام المهارات والعلوم والقدرات المكتسبة لتحقيق أكبر ممكن من الإنجازات. 
و بشكل طبيعي لا يمكن الوصول للتقدير وتحقيق الذات بدون العلم والمعرفة والثقافة وتقدير الجمال لذلك وضع الباحثون بناء على ما ذكره ماسلو في أبحاثه درجات إضافة على هذا الهرم قبل درجة تحقيق الذات وهي: 
- الحاجات الإدراكية ومنها المعرفة والعلم ومعرفة المعاني
- الحاجات الجمالية ومنها تقدير الجمال (الطبيعي - الفني - الخ..)
بالإضافة للاحتياجات الروحانية على قمة الهرم والملفت للنظر أنه لكي تنتقل من مستوى احتياج معين إلى مستوى أعلى يجب تلبية الاحتياج الذي قبله.  (صورة هرم الاحتياجات مرفقة أدناه)

و للعودة للموضوع الأساسي والسؤال الأول في هذا المقال بخصوص الثقافة والرفاهية يمكن القول أن الثقافة هي حاجة إنسانية أساسية لتحقق الرفاهية ورغد العيش وضرورياته وليست من الترف أو الكماليات وأن من الواجب على كل إنسان مدرك وواعي ومستطيع أن يعمل لزيادة ثقافته ومعرفته.