الأربعاء، 27 فبراير 2019

من ذكريات طفل ... - مؤسسة استهلاكية و بونات تموينية

مقدمة وتعريف:
الصورة المرفقة ليست تذاكر سينما أو ألعاب ترفيهية كما يظن البعض بل هي "بونات" أو قسائم مواد غذائية مهمة لحياة معظم الشعب السوري خاصة في فترة الثمانينات وهي فترة فُقدت خلالها الكثير من المواد ومُنع بيعها في محلات البقالة أو أصبحت نادرة أو مهربة ومرتفعة السعر جدا.
يمنح رب كل أسرة عددا من هذه القسائم "البونات" حسب عدد أفراد أسرته للحصول على الأساسيات من رز، سكر، زيت وسمنة وحتى الشاي وما شابه من المواد الغذائية عند توفرها في مراكز توزيع محددة وأحيانا تكون الأوقات عشوائية وغير معلنة للكثير من الناس. هذه العملية هي إحدى ميزات النظام الاشتراكي الذي اثبت ارتباطه بالحكومات العسكرية والفساد والتعذيب والموت في معظم الدول التي مارسته.

حصل لي مواقف كثيرة (كما حصل للعديد ممن عاصر تلك الفترة) في هذه المراكز في فترة ما بين ال 1983 الى 1986 في ما يلي بعض ما اتذكره:


القصة:
- كان صباحا هادئا في أحد الأيام الصيفية وكان يروق لي الصعود واللعب على سطح البيت قبل ارتفاع حرارة الشمس ولكن قطع هذا اللعب في ذلك اليوم نداء جدتي رحمها الله تطلب مني النزول والاستعداد للذهاب لمركز التوزيع (المؤسسة) حيث أنه قد تنائى لسمعها من بعض الجيران أن هناك حركة تفريغ لشاحنة وربما يكون هناك بعض السكر وقد استعد كثير من شباب الحي وشاباته ونسائه وكهوله وحتى أطفاله للذهاب ومحاولة الحصول على ما يمكن الحصول عليه... حاولت التملص لأني تذكرت المعمعة التي مضت من شهر وكيف أني كدت أختنق بعد تحول الطابور الطويل إلى كومة من البشر متراكمين فوق بعضهم البعض وكيف أني جاهدت بصعوبة للخروج من منتصف تلك الكومة البشرية بأقل الأضرار وهي خسارة فردة حذائي الجميل مع بعض الإصابات الطفيفة وضغط جسدي عنيف يصاحبه ضغط نفسي ثم سعادة عند نجاح الخروج وشعور بالولادة من جديد.

طبعا لم تفلح محاولاتي بالتملص بل تم تسليم تلك القسائم "البونات" مع كيس وأمر بالمحاولة وبذل الجهد.

ذهبت متباطئاَ وعندما وصلت كان هناك فعلا بداية طقوس بتكوين شبه طابور وصل لحدود ال 50 شخصا وما زالت الجموع تتوافد متسارعة. كنت أعرف أن هذا الطابور هو شكلي في بداية التوزيع وبعد قليل سيتحول لكومة بشرية عنيفة خاصة عند إحساس الناس أن مدير المؤسسة سيعلن انتهاء الكمية بعد إخفاء جزء كبير منها وتوزيعه لمعارفه وأصدقائه وربما بيع بعضه في السوق السوداء وهذا ما كان يحصل بشكل متكرر.

حاولت التقدم داخل المؤسسة والاستكشاف لمعرفة إن كان هناك صديق أعرفه أو سماع أي كلمات مفيدة للموقف واقتربت من مكتب المدير الذي كان بابه يفتح ويغلق بشكل متكرر لاستقبال بعض الأشخاص المهمين أو الصبايا الجميلات وكان الجميع يخرج من مكتبه بأكياس من المواد الغذائية مع بعض المواد الأخرى. وفي ذلك الوقت كنت أظن أن مكتبه فخم جدا في تلك الفترة ولكن الحقيقة أنه كان مظهرا زائفا وكان مكتبا حقيرا شكلا ومضمونا.

لاحظت أحدهم ممن خرج من ذلك الوكر (المكتب) ينتحي بشخص أخر يعرفه فاقتربت منهم متظاهرا المشي ولم يكترثا بذلك الطفل الذي لم يبلغ المراهقة بعد وكان يهمس له بأن يبقى بعد إعلان أن الكمية نفذت ولا ينصرف ففهمت رسالتهم السرية ،بدون أن أعرف السبب، ثم تابعت المشي مبتعدا حتى لاحظت إشارة بداية التوزيع عندما خرج مساعد المدير من مكتبه كأنه مقدم على إعطاء أمر بتحرير أرض محتلة أو شأن هام من شؤون الدولة وأمر الجميع بالانضباط وإلا سيغلق الأبواب ولن يحصل أحد على شيء مع بعض التهديدات بالويل والثبور وعظائم الأمور فحصلت بعض الهمهمات من الشعب مع بعض الحركات المزيفة بالالتزام بالصف وعندها هرولت مسرعا للحفاظ على دوري الذي تجاوز التسعين وبدأت عملية التوزيع البطيئة المذلة التي تخللها الكثير من المخالفات فمثلا من الطبيعي خلال هذه العملية أن يأتي شخص يحمل بطاقة معينة أو حتى يتكلم بلهجة معينة ويتجاوز الجميع للحصول على حصته من السكر بدون اعتراض وقد يصرخ في وجه مساعد المدير أو يفتح الباب على مدير المؤسسة نفسه متظاهرا بأنه يسلم عليه ويذكره بشيء ما وقد يدعوه الأخر للدخول وإغلاق الباب حتى لا يؤذيه صراخ الشعب المنتظر أو رائحتهم عندما يشتد الزحام والحر.

بعد تجاوز المئة شخص من التوزيع (70 من الصف المنتظر والباقي واسطات) يبدأ التلميح بأن الكمية محدودة والطلب من القادمين الجدد عدم الانتظار والعودة في يوم أخر وهنا يبدأ تحول الطابور تدريجيا إلى مجموعات مضغوطة تندمج كلها في كومة بشرية واحدة يبرز منها عشرات الأيادي مرتفعة بالبونات ومنهم من يتوسل ومنهم من يصرخ سواء قهراً أو ألماً من اشتداد الضغط عليه أو الدوس على رجله أو صبية تم إيذائها من شاب ليس هدفه السكر أو الرز بل شيء أخر وربما كان هدفه السكر ولكنه نسي أو تناسى ذلك وبقي يعارك الجموع.

عادة في مثل هذا الموقف يكون الهدف اختراق تلك الكتلة والوصول للهدف وهو أقرب نقطة للشخص الذي يوزع عسى أن يأخذ مني البونات والكيس ولكني هذه المرة ابتعدت بكل برود ووقفت أراقب ذلك المنظر السيريالي الذي يمثل صراع الشعوب للحياة وتسلط المسؤولين والفساد وربما يمثل الاشتراكية الفاسدة بكل تفاصيلها.

تم الإعلان عن نفاذ الكمية وبدأت تلك الكتلة بالتفكك فمنهم من يخرج وجهه أحمر منكوش الشعر مبعثر الثياب ومنهم من يخرج بدون ما كان ينتعله في رجله ومنهم الباكية الساخطة ومنهم الغير مبالي أو المندهش وتعبيرات كثيرة أعجز عن وصفها في تلك الفترة.

بعد حوالي الساعة انفرط الجميع وبقي أقل من 10 أفراد فخرج مساعد المدير من غرفة جانبية ليعلن بقاء كمية محدودة جدا كانت قد زادت من التوزيع الماضي( أو أي حجة يراها مناسبة) وتم توزيع الكمية لمن بقي بعد انصراف الجموع و التقط المدير خلال ذلك صورة له يعطي أحد المواطنين حصته مبتسما بسعادة.

عدت للبيت أحمل بضعة كيلوات من السكر وكأني أحد أباطرة الرومان بعد انتصاره في معركة مهمة وسلمته بفخر لجدتي بعد المرور بنظرات البعض الغابطة والمستغربة من حصولي على السكر.
لم أكن أعلم أنها إحدى الطرق التي يذل بها المستبدون شعوبهم ويضيعوا أوقاتهم ويشتتوا انتباههم عن فسادهم بالبحث عن لقمة العيش ولكن للأسف لا زالت هذه القصص مستمرة في بلاد الاستبداد العسكري بأشكال وطرق مختلفة.