الأحد، 6 سبتمبر 2020

هاجِر...

 - تنويه. إن كنت في منعة وقوة وتستطيع التغيير للأفضل في بلدك فليس بالضرورة أن ينطبق عليك النص التالي ولكن إن لم تستطع على الأقل قول "لا" لظلم أو لظالم في بلد إقامتك فأنصح بالمتابعة. وبالنسبة لاستخدام كلمة هاجر فهي بمعنى السفر والانتقال والترحال هنا وليس بالضرورة المعنى الديني للهجرة ومع ذلك وبما أن الأعمال بالنيات فيمكن لكل شخص استحضار نية الهجرة من بلاد الظلم الى بلاد أقل ظلما واستبدادا وكل لما هاجر له. 

عبر التاريخ  القديم والحديث كان من وظائف المستبدين وكهنة الحكام والسلاطين أن يثبّتوا ويصبّروا الناس على ظلم الحاكم وقسوته وطمعه. الأمثلة كثيرة على ذلك وأكتب هذا النص لتشجيع المستضعفين على التحرك والهجرة للبحث عن الأفضل لهم ولمستقبل أطفالهم علهم يستطيعون حيلة أو يهتدون سبيلا. 

تخيل أن يقول أحدهم لشعب كامل عليكم أن تهاجروا من أرضكم ...

في العصر الحالي ربما ينعت بالجنون ولن يستمعوا له لتعلقهم بأرضهم وممتلكاتهم وكل الماديات التي حولهم ولا يخطر ببالهم أن هذه الماديات صنعها الإنسان ويمكنه أن يصنعها من جديد ولكنه إن خسر نفسه وحريته فسيخسر هو وذريته كل شيء عبر العصور القادمة. 

وردت لنا هذه الهجرة الجماعية في قصة موسى عليه السلام وهجرة بني إسرائيل معه ولم يكن وحده الذي هاجر بل كثير من الأنبياء هاجروا ومنهم ابراهيم وعيسى وصالح ومحمد عليهم السلام. 

وفي عصور الجاهلية وردت أشعار تحث على الهجرة لمن خاف الظلم فقد قال الشنفرى 525م في قصيدته التي مطلعها: "أقيموا بني أمي  صدورَ مَطِيكم":

وفي الأرض مَنْأىً للكريم عن الأذى  * وفيها لمن خاف القِلى مُتعزَّلُ

لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على أمرئ * سَرَى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ

وقال الشاعر الجاهلي عبد قيس بن خفاف البرجمي:

واترك محل السوء لا تنزل به  ***  وإذا نبا بك منزل فتحول

دار الهوان لمن رأها داره    ***   أفراحل عنها كمن لم يرحل


تأتي الهجرة كمخرج عندما لا ينجح أي علاج بديل للاستبداد والظلم الشديد وتصبح هي الحل بل في حالات معينة قد تكون فرضا وواجبا لا مهرب منه ويحاسب عليه الشخص الذي يعتبر ظالما لنفسه في اختيار بقائه تحت نير الظلم والطغيان كما ورد في القرأن الكريم: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ".

وفي أغلب الأوقات يلحق الظالمون بالمهاجرين لقتلهم أو إرغامهم على العودة للاستعباد والذل الذي كانوا به كما لحق فرعون وجنده بموىسى وبني إسرائيل لمنعهم من الهجرة. وقد حاول المشركون في مكة اللحاق بالمهاجرين إلى الحبشة وإعادتهم أيضا وصعّبوا الهجرة على غيرهم فمنعوا بعضهم من والدته وزوجته وأولاده أو ماله وأمثلة غيرها.

يحاول المستبدين أيضا التحايل على المستضعفين وحصرهم في خيارين. إما البقاء تحت الظلم والعيش بذل وامتصاص دمائهم تدريجيا من خلال تضييق المعيشة عليهم وفرض ضرائب عالية وأتاوات على كل شيء ويأخذون أولادهم للخدمة العسكرية غصبا وقد يستعملوهم لقتل أخوتهم من الأحرار المقاومين للظلم وإما الحبس والموت والدمار.

الملاحظ هنا أن المستبد يريد أن يبقي هؤلاء الناس تحت حكمه بشتى الطرق والوسائل ويلاحظ هنا أيضا أنه قد يستخدم أحيانا أسلوب الخطاب الديني لتصبيرهم وبعض أتباع المدارس الدينية المتأثرة بالاستبداد عبر مئات السنين تجاري المستبدين في خطاباتهم لا شعوريا وبدون إدراك أنهم يوجهون الناس نحو الهلاك.

هناك دائما خيارالابتعاد والهجرة. المشكلة الرئيسة في اختيار البقاء هو أن يصبح الشخص مثل ذلك الضفدع الذي يسخن تحته الماء تدريجيا ويعتاد على محيطه حتى يغلي الماء ويموت بدون أن يشعر أو أن يصبح مثل ذلك القرد الذي يمسك بالطعم الموضوع في الفخ بدون ان يستطيع إخراج يده حتى يقبض عليه الصياد ويقتاده للسيرك أو للبيع. 


لقد حث القرأن على الهجرة في قوله تعالى " ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة" وفي الحديث : "إن الرجل إذا مات في غير مولده، قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة" كما شجع صلى الله عليه وسلم الكثير من المسلمين الأوائل على الهجرة للحبشة.


السؤال الذي يرد بعد ذلك هو إلى أين؟  والإجابات تتعدد ولكن في اعتقادي أنها تصب بطريقة أو أخرى في هدف البحث عن عدل أكثر أو على الأقل ابتعاد عن ظلم يتزايد فقد قال الكثير من الحكماء أن العدل أساس الملك وأنه بالعدل تحيا الامم والمعيار الذي ذكره الرسول للمهاجرين هو العدل وليس الدين أو المسافة "إنَّ بأرض الحبشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده".

إن أردت أن أوصي أبنائي أو عائلتي وأصدقائي عن أفضل بلد للعيش والسكن سواء الأن أو في المستقبل فلن أوصيهم بالذهاب ل أغنى بلد أو أجمل بلد أو البلد الأكثر التزاما دينيا في المظاهر أو في كل الأفعال ما عدا العدل أو حيث تتوفر الخدمات والرفاهية وغيرها من الخيارات والإغراءات الكثيرة. 

الذي سأوصي به هو البحث عن البلد الأكثر عدلا أو الأقل ظلما وهذا - من وجهة نظري - هو أساس الحفاظ على كل الأشياء الجميلة التي تم ذكرها فالظلم يشوه الجمال ولن يكون عندك مال إذا عم الفساد والظلم وحتى الدين لن يكون كاملا في بلد ظالم وستضيع الحقوق وغيرها بضياع العدل. العدل يقوم بحفظ كل شيء  من إنسان وحيوان ونبات.


ورد في الحماسة للبحتري العديد من الأشعار حول الهجرة منها قول قيس الأنصاري: 

وما بعض الاقامة في ديار  ***  يهان بها الفتى إلا عناء.

وقول أوس التميمي: 

أقيم بدار الحزم ما كان حزمها  ***  وأحر إذا حالت بأن أتحولا


بقيت الهجرة منتشرة في العصور اللاحقة بعد هجرة المدينة فقد كان هناك عشرات الألاف من الصحابة في مكة والمدينة المنورة وهاجر أغلبهم وانتشروا في الأرض (وانتشر الدين مع انتشارهم سواء سلما بالمعاشرة والقيم والمعاملة أو بمحاربة الظلم والطغيان للملوك المستعبدين لشعوبهم الذين منعوا نشر الفكر والقيم بشكل سلمي لأهداف السياسة والحكم التي تأثر بها ملوك الشرق لاحقا أيضا) وتتابعت الهجرة لأقصى الشرق ولو قرر أوائل المهاجرين عدم الذهاب أو العودة من ماليزيا واندونيسيا مثلا لما كان هناك بحدود 300 مليون مسلم الأن. 


في العصر العباسي يقول الشاعر صالح عبد القدوس: 

وإذا رأيتَ الرِّزقَ عَزَّ ببلـدةٍ  ***  وخشيتَ فيها أن يضيقَ المكسبُ

فارحلْ فأرضُ اللهِ واسعةَ الفَضَا  ***  طولاً وعَرضاً شرقُهـا والمغرِبُ


وكان الشافعي 767-820م من المشهورين بالهجرة والثناء عليها وقد وردت له الأبيات التالية: 

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا *** وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ   ***  وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ

وَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَمِحنَةٌ  ***  وَقَطعُ الفَيافي وَاِكتِسابُ الشَدائِدِ

فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ  ***  بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ

وقال ايضا:

ارحل بنفسك من ارضٍ تضام بهـا * ولا تكن من فراق الأهل في حرق

فالعنبرُ الخامُ روثٌ في مواطنهِ * وَفِي التَّغَرُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُنُقِ 

وينسب له كذلك: 

ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدب * مِنْ رَاحَة ٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ

سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقهُ * وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ

إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ * إِنْ سَال طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ


وبعد ذلك قال البستي  1010 م :  

إذا نَبـا بـكريـمٍ موطِـنٌ فلَـهُ * * * وراءهُ فـي بسيـط الأرض أوطـانُ

وإن نبَتْ فيك أوطان نشأت بهـا * * * فـارحـل فكـل بـلاد الله أوطـانُ





x

وورد في تائية أبو إسحاق الإلبيري:

ولاتلبث بحي فيه ضيم *** يميت القلب إلا إن كبلتا

وغرب فالتغرب فيه خير *** وشرق إن بريقك قد شرقتا

وعند ازدياد الفتن وانتشارالظلم في الأندلس نادى ابن العسال (ت 1095م) في أهل الأندلس بالهجرة وربما قد فاز ونجى من سمع نصحه في ذلك الوقت: 

شدّوا رواحلَكم يا أهلَ أندلس *** فما المقامُ بها إلاَّ من الغَلَطِ

الثَّوب ينسلُّ من أطرافه وأرى *** ثوبَ الجزيرة منسولاً من الوسطِ


وبعده بقليل قال الحريري صاحب المقامات المشهورة:

لا تصبون الى وطن *** فيه تضام وتمتهن

وجب البلاد فأيها  *** أرضاك فاختره وطن 


وقال ابن المقرب العيوني بحدود القرن الثاني عشر:

قمُ فاشدد العيس للترحال معتزما *** واِرم الفجاج بها فالخطب قد فقما

 وَلا تلفت إِلى أَهل ولا وطن   ***  فَالحر يرحل عَن دارِ الأذى كرما 


وقال عبد العزيز الدريني في القرن الثالث عشر:

عجبت لمن يقيم بدار ذل *** وأرض الله واسعة فضاها

 فذاك من الرجال قليل عقل *** بليد ليس يدرى ماطحاها 

فنفسك فز بها إن خفت ضيما *** وخلى الدار تنعى من بناها 

فإنك واجد أرضا بأرض *** ونفسك لا تجد نفسا سواها 

ومن طريف ما ذكره ابن الوردي 1292م في لاميته الشهيرة قوله: 

حبك الأوطان عجز ظاهر  ***  فاغترب تلق عن الأهل بدل

أخر ما قرأته بخصوص الهجرة كان كتابا لعالم الاقتصاد بول كوليير ذكر به أن المهاجرين قد يصبحون فاعلين ضد الاستبداد في البلاد التي هاجروا منها وخطر كامن للمستبد عندما يقفون ضد أخطائه ويشكلون معارضة خارجية (طبعا سيتهمهم المستبد وأعوانه بالخيانة) إضافة لكونهم برنامج مساعدة لامركزي يحسن حياة الملايين من الشعوب الفقيرة كما بين أن الهجرة المستمرة تقرب الناس من بعضهم وتعرفهم على بعضهم أكثر مما يقلل من العنصرية حول العالم. 

هذا أشهر ما وجدته من الأقوال بخصوص الهجرة والحث عليها وربما هذه الأصوات كانت خافتة في عصور الاستبداد أو الترف كما أذكر أيضا أن بعض القبائل أو الأسر من العرب كانت لا تفضل أشعار الهجرة في تلك الأوقات حتى لا يتغرب عنهم أبنائهم وربما كان هذا تغليبا للعاطفة على العقل. وفي العصر الحالي تغيرت الحدود والأساليب ولكن بقيت الهجرة خيارا أمام الملايين من البشر حتى لو مشيا على الأقدام هروبا وتهريبا وتسللا وغيرها من الطرق.

عند مقارنة حال من هاجر بحال من بقي ينبغي اعتبار ان اول عدة سنوات ستكون صعبة جدا على  المهاجرين فهم في مرحلة بناء جديدة ولكن قارن على مدى عشرين سنة أو اكثر وغالبا وبالمجمل ستلاحظ أن حال من هاجر اصبحت أفضل بكثير من حال من بقي تحت  نير الظلم والاستبداد (وهو منتشرفي العالم ولكنه نسبي). 

في الختام أقول أيها الإنسان المظلوم أنت لست جماد فتحرك -إن استطعت- إلى بلاد تحترم العدل ولا تربي أولادك عبيدا للمستبد ولا تبقى في بلاد ظلم ظهيرا للمجرمين والظالمين إن استحال عليك التغيير.


 

هناك تعليق واحد:

  1. مقال جميل . لا استطيع ان أوافقك ولا أستطيع أن اعارضك . ما حصل في سوريا مأساة بكل معنى الكلمة . كم يصعب تصور ان تبقى سوريا للحثالة التي تحكمها .

    ردحذف