الاثنين، 21 سبتمبر 2020

خلاصة كتاب نظام التفاهة - ألان دونو(لا تكن إمّعة)

ملاحظة شخصية على ترجمة العنوان: كان الأجدربالمترجمة استخدام كلمة الإِمَّعة أو الإِمَّعية بدل كلمة التفاهة فهي -من وجهة نظري- أدق وأقرب لما يحاول المؤلف أن يعبر عنه وللقارئ أن يحاول استبدال الكلمة كلما مرت معه في الخلاصة أو الكتاب ليتضح المعنى. 

- الإنسان التافه أو الإِمَّعة هو الشخص الذي تستطيع أي جهة ما نقل تعليماتها من خلاله بما يسمح بترسيخ نظامها حتى لو كان متخصصا أو محترفا في مجاله. هذا الشخص الذي يغير رأيه باستمرار ويتبع عبارة "عليك أن تلعب اللعبة" على رقعة الشطرنج الاجتماعي يرسّخ نظام التفاهة تدريجيا في ذلك المجتمع حتى يسيطر على كل شيء.  لعبة القوانين والتسلق والسرقة وغيرها يمكن ملاحظتها في العديد من المؤسسات والمجالات والوظائف. 

في الفصل الأول "المعرفة" والخبرة بيّن المؤلف كيف أن علاقة الجامعات اقتربت من الشركات التجارية وابتعدت عن عملية المعرفة الحقيقية وأن بعض الأساتذة أصبحوا سماسرة يبيعون نتائج الأبحاث للممولين وأن إخضاع الأبحاث الجامعية لمعايير المشروعات الخاصة هو شي ضار بهذه الأبحاث كما ذكر أن تزايد حملة شهادات الدكتوراه في الغرب يمكن ان يفسر السبب وراء كون العديد منهم عاطلين عن العمل وتطرق لتورط الكثير من الجامعات في استثمارات سيئة في جزر الجنان الضريبية. 


في الفصل الثاني: "التجارة والتمويل" ذكر الكاتب عدة أمثلة توضح أن السوق الاقتصادية يلعب بها خوارزميات بطريقة لم نعد نستطيع فهمها وأن النظام الاقتصادي يتم التلاعب به ويتم ايهامنا انه يوضع موضع التطبيق في قرارات الاشخاص الذين نعتمد عليهم من ذوي السلطة وأنه كلما تراجعت الأوليغارشية لعاداتها السيئة (فساد - تدليس - تفاهة) سارع "الخبراء" (الإمعات) الذين يتقاضون رواتبهم منها إلى إنقاذها خاصة المصابين بالطمع أو مرض المال حيث أن المال يصنع لهؤلاء الناس ساترا يخفي كل شيء والنقود تصبح القيمة المطلقة في عالم التفاهة وطبقة الأغنياء يراقبون جبال الذهب التي يكنزونها بينما من حولهم في ضنك العيش.

تحدث ألان عن مشاكل الاستعمار ومخلفاته في بعض دول أفريقيا وعن نهب مواردها وسيطرة المستعمرين على الحكومات المحلية ومحاربة الاكتفاء الذاتي وحتى استخدام المؤسسات غير الربحية للسيطرة والنهب. كما ذكر الحركات العمالية وهل هي سياسية أم لا وكيف أن بعض الدول تسمح بحركتها طالما لا تمس إطار السلطة. 


في الفصل الثالث - "الثقافة والحضارة" يفرق الكاتب بين الإقتصاد الروحي أوكما يصفه فرويد(الاستثمار الغريزي - مدخرات الطاقة) والإقتصاد المادي الذي يتكون من صفقات تجارية. الأول هو الفعال بمراكمة رأس المال ففن صناعة المال هو مسألة حوافز ثم يبين كيف أن النقود تخدم الفن وتستخدمه في نفس الوقت لتخبر عن نفسها باعتبارها وسيلة للتأثير في التفاهة (الإمعية) في أعظم حالاتها.  

يقارن الكاتب بين من يبحثون عن المال للتحرر من الجهود السيكولوجية والتراخي الأخلاقي (الأثرياء غالبا) وبين من يبحثون عنه كأجر للمعيشة ويأتي معه الصمت "اخرس انا ادفع لك" أو "ابتسم أنا ادفع لك" أو "الزبون دائما على حق".وهذا يشير إلى أن النقود هي عامل قمع وشراسة وعنف ينكره الأثرياء بينما هم يباشرونه ويكبته الفقراء فيما بسلمون أنفسهم له. 

يستشهد الكاتب بمقولة أدورنو وهوركهايمرفي أنه لا حاجة للسينما والاذاعة ان تتظاهرا بعد الأن بكونهما فنا. حقيقة الأمر هي انهما لا تعدوان ان تكونا اعمال تجارية وأنه لا اعتبار للفنانين فالعمل يفرض عليهم وفقا لأهداف السوق. وبعض الفنانين يلعبون اللعبة أو يتم التلاعب بهم من خلال قضايا إنسانية أو مشاعر لتحويل الأنظار عن القضايا السياسية أو الفساد.  أما التلفاز فهو يحد من التفاعل الاجتماعي ومحفز لتجارة الاستهلاك التي تقدم منتجات تحل المحل العاطفي للرابطة الاجتماعية.

 وينتقل لما ذكره هربرت ماركيوز عن أنه اذا كانت جميع طبقات المجتمع تتمتع بنفس أساليب الرفاهية فهذا لا يعني اختفاء الطبقية بل هو تأكيد لأي درجة يشارك المُسيطرعليهم في الاحتياجات والإرضاءات الضامنة للإبقاء على الطبقات المهيمنة. 

في الفصل الأخير "ثورة - إنهاء ما يضر بالصالح العام" يقول الكاتب أن الدعوات إلى التصرف والثورة تطلق في حالة ارتباك ظاهر ويعبرعن الخوف من ثورات مفتعلة يصحبها تغيير شكلي من قبل نخبة تحرص على التأكد من عدم تغير أي شيء وبالتالي يستمر الفساد والضرر بالصالح العام.

كتشخيص إضافي يقول أننا الأن نطور معرفة وتسمية الواقع الذي يوجد به الفساد والتفاهة (الإمعية) مقابل معرفة حركات الانعتاق ( red squares - occupy - spring uprisings) التي ،برغم عدم خلوها من الاخطاء، تستمر في محاولتها لتقويض وتخريب المؤسسات التافهة. 

خلال فصول الكتاب ذكر المؤلف العديد من المؤلفات والأفلام مثل: فلسفة النقود - سادة الندى Masters of the dew - المساعدة القاتلة - نقد العنف - زمن المهرجين - ديالكتيك التنوير - الرجل ذو البعد الواحد - المزيفون - الفهد - الأرض السلطة الحقوق. The Wanted 18 - Lets make money - White collar وغيرها. 


في الخاتمة "سياسات الوسط المتطرف" ضرب أمثلة عديدة على أن قيم الجناح اليساري قد فرغت من محتواها بحيث أن الكثير أصبح في الوسط ولم يعطوا أي أولوية لما يمكن ان تكون عليه المساعي الجمعية. وبالنسبة للجناح الليبرالي فقد ركب على موجة الأقليات ومقاومتها التاريخية واستخدمها كبضاعة لعرضها في واجهاتهم الانتخابية. إنهم لا يهتمون بكون الجامعة تعمل وكأنها معمل للسجق ما دامت هيئة التدريس والطلبة قد ضُمن لهم الاعتراف بهوياتهم المحددة. ينتقل للفوضوية ويقول أن من يميل إليها يكون بسبب وحشية الرأسمالية. ويبين كيف أن ردود أفعالهم وسلبيتهم وسخريتهم تلقي الضوء على سلبيات الأنظمة المسيطرة. 

أما بالنسبة للوسط المتطرف extreme center (الذي يمثل الإمعية بوضوح) فهو ،بحسب تقديم المؤرخ بيير سيرنا،  تناسخ مجموعة من قالبي السترات المكونين من سياسيين هادئين راجحي العقل ولكنهم يحافظون على مناصبهم من خلال التمسك بكلمتهم والتراجع عنها باستمرار. روحة وجيئة من دون توقف. وتدريجيا تم الانتقال من فترة كان المرء فيها مخلصا لقناعاته حتى لو كلفته حياته إلى فترة فاسدة سمتها هشاشة وتغير الكلمة كل يوم. ثم تطور ذلك مؤخرا إلى اللغة الخشبية "لا تعتبر قد رجعت في كلمتك إن لم تقل شيئا".

من ضمن التشخيص يؤكد الكتاب أننا نعاني حدة نقص في الفكر الجمعي وأن الطبقة الوسطى مشتتة وملهاة بالكثير من الأمور منها الاستهلاك والأسعار والمزايا المهنية. 

تحدث أيضا عن "دين الشركة" و"دين العلامة التجارية" وعبادة تلك العلامات كونها "ضرورة للمستهلك أو إيمان منه". إضافة لإجبار الموظفين على تبني ممارسات الطائفة وفرض دورات في التفكير الايجابي ومطالبتهم ان يكونوا بشوشين في هذا "العالم الشجاع الجديد" . أما "المواطن" فقد انحدرت به الحال الى "فرد" تتقلص قيمته احيانا لحد يضطره للتساؤل حول مصدر السلطة.  التي تعني بالنهاية قوة عدائية. السلطة اصبحت غالبا شركات أو اشخاص اعتباريين-قانونيين. 

يؤكد الكاتب أنه يتم تغطية وتمويه العديد من أسباب المشاكل الرئيسة بأغطية وهمية وإخفاء الأسباب الحقيقية وأن الحال وصل لأنه لا يمكن لأحد في هذه الأيام أن يشجب تفاهة أو توسط الأشخاص الذين يحاولون اخذ مسافة متساوية من الجميع.

في أخر صفحة يسأل الكاتب بصيغة يائسة ما الذي يمكن عمله حول شرور زماننا حيث اقتصاديات شركات البترول أشبه ما تكون بالمافيا والانتاج الاعلامي مصمم للتلاعب بناء على اساس من التجارب العصبية وقارة من البلاستيك تتشكل في المحيط الهادي وتوترات تثور بلا هوادة في مناطق الصراع الجيوسياسي؟ ما الذي استطيع عمله أنا الشيء الصغير النكرة المجبر على أكل البيتزا المجمدة بداخل شقتي المكونة من نصف سرداب واعيش في محيط من معدل البطالة المرتفع والايجارات العالية ووحشية الشرطة؟

الجواب هو توقف عن السخط وانتقل لما بعد ذلك. إعمل بلا هوادة لخلق قضايا وجيهة. التق مع أخرين في تجمعات بخلاف الطائفية والشللية. إسخر من الايديولوجيات، اختزل المصطلحات التي تريد البروباغندا كتابتها في جوهر ذواتنا وحولها الى موضوعات مجردة للتفكير. تجاوز أساليب السيطرة التي تمارسها المنظمات وحاول خلق بنى تشبهنا. كن راديكالياً. (بمعنى أن تنظر للب الأمور وجوهرها وأسباب المشاكل الرئيسية ولا تكن إمّعة).



الأحد، 6 سبتمبر 2020

هاجِر...

 - تنويه. إن كنت في منعة وقوة وتستطيع التغيير للأفضل في بلدك فليس بالضرورة أن ينطبق عليك النص التالي ولكن إن لم تستطع على الأقل قول "لا" لظلم أو لظالم في بلد إقامتك فأنصح بالمتابعة. وبالنسبة لاستخدام كلمة هاجر فهي بمعنى السفر والانتقال والترحال هنا وليس بالضرورة المعنى الديني للهجرة ومع ذلك وبما أن الأعمال بالنيات فيمكن لكل شخص استحضار نية الهجرة من بلاد الظلم الى بلاد أقل ظلما واستبدادا وكل لما هاجر له. 

عبر التاريخ  القديم والحديث كان من وظائف المستبدين وكهنة الحكام والسلاطين أن يثبّتوا ويصبّروا الناس على ظلم الحاكم وقسوته وطمعه. الأمثلة كثيرة على ذلك وأكتب هذا النص لتشجيع المستضعفين على التحرك والهجرة للبحث عن الأفضل لهم ولمستقبل أطفالهم علهم يستطيعون حيلة أو يهتدون سبيلا. 

تخيل أن يقول أحدهم لشعب كامل عليكم أن تهاجروا من أرضكم ...

في العصر الحالي ربما ينعت بالجنون ولن يستمعوا له لتعلقهم بأرضهم وممتلكاتهم وكل الماديات التي حولهم ولا يخطر ببالهم أن هذه الماديات صنعها الإنسان ويمكنه أن يصنعها من جديد ولكنه إن خسر نفسه وحريته فسيخسر هو وذريته كل شيء عبر العصور القادمة. 

وردت لنا هذه الهجرة الجماعية في قصة موسى عليه السلام وهجرة بني إسرائيل معه ولم يكن وحده الذي هاجر بل كثير من الأنبياء هاجروا ومنهم ابراهيم وعيسى وصالح ومحمد عليهم السلام. 

وفي عصور الجاهلية وردت أشعار تحث على الهجرة لمن خاف الظلم فقد قال الشنفرى 525م في قصيدته التي مطلعها: "أقيموا بني أمي  صدورَ مَطِيكم":

وفي الأرض مَنْأىً للكريم عن الأذى  * وفيها لمن خاف القِلى مُتعزَّلُ

لَعَمْرُكَ ما بالأرض ضيقٌ على أمرئ * سَرَى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ

وقال الشاعر الجاهلي عبد قيس بن خفاف البرجمي:

واترك محل السوء لا تنزل به  ***  وإذا نبا بك منزل فتحول

دار الهوان لمن رأها داره    ***   أفراحل عنها كمن لم يرحل


تأتي الهجرة كمخرج عندما لا ينجح أي علاج بديل للاستبداد والظلم الشديد وتصبح هي الحل بل في حالات معينة قد تكون فرضا وواجبا لا مهرب منه ويحاسب عليه الشخص الذي يعتبر ظالما لنفسه في اختيار بقائه تحت نير الظلم والطغيان كما ورد في القرأن الكريم: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ".

وفي أغلب الأوقات يلحق الظالمون بالمهاجرين لقتلهم أو إرغامهم على العودة للاستعباد والذل الذي كانوا به كما لحق فرعون وجنده بموىسى وبني إسرائيل لمنعهم من الهجرة. وقد حاول المشركون في مكة اللحاق بالمهاجرين إلى الحبشة وإعادتهم أيضا وصعّبوا الهجرة على غيرهم فمنعوا بعضهم من والدته وزوجته وأولاده أو ماله وأمثلة غيرها.

يحاول المستبدين أيضا التحايل على المستضعفين وحصرهم في خيارين. إما البقاء تحت الظلم والعيش بذل وامتصاص دمائهم تدريجيا من خلال تضييق المعيشة عليهم وفرض ضرائب عالية وأتاوات على كل شيء ويأخذون أولادهم للخدمة العسكرية غصبا وقد يستعملوهم لقتل أخوتهم من الأحرار المقاومين للظلم وإما الحبس والموت والدمار.

الملاحظ هنا أن المستبد يريد أن يبقي هؤلاء الناس تحت حكمه بشتى الطرق والوسائل ويلاحظ هنا أيضا أنه قد يستخدم أحيانا أسلوب الخطاب الديني لتصبيرهم وبعض أتباع المدارس الدينية المتأثرة بالاستبداد عبر مئات السنين تجاري المستبدين في خطاباتهم لا شعوريا وبدون إدراك أنهم يوجهون الناس نحو الهلاك.

هناك دائما خيارالابتعاد والهجرة. المشكلة الرئيسة في اختيار البقاء هو أن يصبح الشخص مثل ذلك الضفدع الذي يسخن تحته الماء تدريجيا ويعتاد على محيطه حتى يغلي الماء ويموت بدون أن يشعر أو أن يصبح مثل ذلك القرد الذي يمسك بالطعم الموضوع في الفخ بدون ان يستطيع إخراج يده حتى يقبض عليه الصياد ويقتاده للسيرك أو للبيع. 


لقد حث القرأن على الهجرة في قوله تعالى " ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة" وفي الحديث : "إن الرجل إذا مات في غير مولده، قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة" كما شجع صلى الله عليه وسلم الكثير من المسلمين الأوائل على الهجرة للحبشة.


السؤال الذي يرد بعد ذلك هو إلى أين؟  والإجابات تتعدد ولكن في اعتقادي أنها تصب بطريقة أو أخرى في هدف البحث عن عدل أكثر أو على الأقل ابتعاد عن ظلم يتزايد فقد قال الكثير من الحكماء أن العدل أساس الملك وأنه بالعدل تحيا الامم والمعيار الذي ذكره الرسول للمهاجرين هو العدل وليس الدين أو المسافة "إنَّ بأرض الحبشةِ ملِكًا لا يُظلَمُ أحدٌ عنده".

إن أردت أن أوصي أبنائي أو عائلتي وأصدقائي عن أفضل بلد للعيش والسكن سواء الأن أو في المستقبل فلن أوصيهم بالذهاب ل أغنى بلد أو أجمل بلد أو البلد الأكثر التزاما دينيا في المظاهر أو في كل الأفعال ما عدا العدل أو حيث تتوفر الخدمات والرفاهية وغيرها من الخيارات والإغراءات الكثيرة. 

الذي سأوصي به هو البحث عن البلد الأكثر عدلا أو الأقل ظلما وهذا - من وجهة نظري - هو أساس الحفاظ على كل الأشياء الجميلة التي تم ذكرها فالظلم يشوه الجمال ولن يكون عندك مال إذا عم الفساد والظلم وحتى الدين لن يكون كاملا في بلد ظالم وستضيع الحقوق وغيرها بضياع العدل. العدل يقوم بحفظ كل شيء  من إنسان وحيوان ونبات.


ورد في الحماسة للبحتري العديد من الأشعار حول الهجرة منها قول قيس الأنصاري: 

وما بعض الاقامة في ديار  ***  يهان بها الفتى إلا عناء.

وقول أوس التميمي: 

أقيم بدار الحزم ما كان حزمها  ***  وأحر إذا حالت بأن أتحولا


بقيت الهجرة منتشرة في العصور اللاحقة بعد هجرة المدينة فقد كان هناك عشرات الألاف من الصحابة في مكة والمدينة المنورة وهاجر أغلبهم وانتشروا في الأرض (وانتشر الدين مع انتشارهم سواء سلما بالمعاشرة والقيم والمعاملة أو بمحاربة الظلم والطغيان للملوك المستعبدين لشعوبهم الذين منعوا نشر الفكر والقيم بشكل سلمي لأهداف السياسة والحكم التي تأثر بها ملوك الشرق لاحقا أيضا) وتتابعت الهجرة لأقصى الشرق ولو قرر أوائل المهاجرين عدم الذهاب أو العودة من ماليزيا واندونيسيا مثلا لما كان هناك بحدود 300 مليون مسلم الأن. 


في العصر العباسي يقول الشاعر صالح عبد القدوس: 

وإذا رأيتَ الرِّزقَ عَزَّ ببلـدةٍ  ***  وخشيتَ فيها أن يضيقَ المكسبُ

فارحلْ فأرضُ اللهِ واسعةَ الفَضَا  ***  طولاً وعَرضاً شرقُهـا والمغرِبُ


وكان الشافعي 767-820م من المشهورين بالهجرة والثناء عليها وقد وردت له الأبيات التالية: 

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا *** وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ   ***  وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ

وَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَمِحنَةٌ  ***  وَقَطعُ الفَيافي وَاِكتِسابُ الشَدائِدِ

فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ  ***  بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ

وقال ايضا:

ارحل بنفسك من ارضٍ تضام بهـا * ولا تكن من فراق الأهل في حرق

فالعنبرُ الخامُ روثٌ في مواطنهِ * وَفِي التَّغَرُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُنُقِ 

وينسب له كذلك: 

ما في المقامِ لذي عقلٍ وذي أدب * مِنْ رَاحَة ٍ فَدعِ الأَوْطَانَ واغْتَرِبِ

سافر تجد عوضاً عمَّن تفارقهُ * وَانْصِبْ فَإنَّ لَذِيذَ الْعَيْشِ فِي النَّصَبِ

إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ * إِنْ سَال طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ


وبعد ذلك قال البستي  1010 م :  

إذا نَبـا بـكريـمٍ موطِـنٌ فلَـهُ * * * وراءهُ فـي بسيـط الأرض أوطـانُ

وإن نبَتْ فيك أوطان نشأت بهـا * * * فـارحـل فكـل بـلاد الله أوطـانُ





x

وورد في تائية أبو إسحاق الإلبيري:

ولاتلبث بحي فيه ضيم *** يميت القلب إلا إن كبلتا

وغرب فالتغرب فيه خير *** وشرق إن بريقك قد شرقتا

وعند ازدياد الفتن وانتشارالظلم في الأندلس نادى ابن العسال (ت 1095م) في أهل الأندلس بالهجرة وربما قد فاز ونجى من سمع نصحه في ذلك الوقت: 

شدّوا رواحلَكم يا أهلَ أندلس *** فما المقامُ بها إلاَّ من الغَلَطِ

الثَّوب ينسلُّ من أطرافه وأرى *** ثوبَ الجزيرة منسولاً من الوسطِ


وبعده بقليل قال الحريري صاحب المقامات المشهورة:

لا تصبون الى وطن *** فيه تضام وتمتهن

وجب البلاد فأيها  *** أرضاك فاختره وطن 


وقال ابن المقرب العيوني بحدود القرن الثاني عشر:

قمُ فاشدد العيس للترحال معتزما *** واِرم الفجاج بها فالخطب قد فقما

 وَلا تلفت إِلى أَهل ولا وطن   ***  فَالحر يرحل عَن دارِ الأذى كرما 


وقال عبد العزيز الدريني في القرن الثالث عشر:

عجبت لمن يقيم بدار ذل *** وأرض الله واسعة فضاها

 فذاك من الرجال قليل عقل *** بليد ليس يدرى ماطحاها 

فنفسك فز بها إن خفت ضيما *** وخلى الدار تنعى من بناها 

فإنك واجد أرضا بأرض *** ونفسك لا تجد نفسا سواها 

ومن طريف ما ذكره ابن الوردي 1292م في لاميته الشهيرة قوله: 

حبك الأوطان عجز ظاهر  ***  فاغترب تلق عن الأهل بدل

أخر ما قرأته بخصوص الهجرة كان كتابا لعالم الاقتصاد بول كوليير ذكر به أن المهاجرين قد يصبحون فاعلين ضد الاستبداد في البلاد التي هاجروا منها وخطر كامن للمستبد عندما يقفون ضد أخطائه ويشكلون معارضة خارجية (طبعا سيتهمهم المستبد وأعوانه بالخيانة) إضافة لكونهم برنامج مساعدة لامركزي يحسن حياة الملايين من الشعوب الفقيرة كما بين أن الهجرة المستمرة تقرب الناس من بعضهم وتعرفهم على بعضهم أكثر مما يقلل من العنصرية حول العالم. 

هذا أشهر ما وجدته من الأقوال بخصوص الهجرة والحث عليها وربما هذه الأصوات كانت خافتة في عصور الاستبداد أو الترف كما أذكر أيضا أن بعض القبائل أو الأسر من العرب كانت لا تفضل أشعار الهجرة في تلك الأوقات حتى لا يتغرب عنهم أبنائهم وربما كان هذا تغليبا للعاطفة على العقل. وفي العصر الحالي تغيرت الحدود والأساليب ولكن بقيت الهجرة خيارا أمام الملايين من البشر حتى لو مشيا على الأقدام هروبا وتهريبا وتسللا وغيرها من الطرق.

عند مقارنة حال من هاجر بحال من بقي ينبغي اعتبار ان اول عدة سنوات ستكون صعبة جدا على  المهاجرين فهم في مرحلة بناء جديدة ولكن قارن على مدى عشرين سنة أو اكثر وغالبا وبالمجمل ستلاحظ أن حال من هاجر اصبحت أفضل بكثير من حال من بقي تحت  نير الظلم والاستبداد (وهو منتشرفي العالم ولكنه نسبي). 

في الختام أقول أيها الإنسان المظلوم أنت لست جماد فتحرك -إن استطعت- إلى بلاد تحترم العدل ولا تربي أولادك عبيدا للمستبد ولا تبقى في بلاد ظلم ظهيرا للمجرمين والظالمين إن استحال عليك التغيير.