الأحد، 24 يناير 2021

سهرات عبر العصور والمسافات - عن القراءة ولم أقرأ.

سألني صديق ما فائدة أن تقرأ هذا الكتاب غير المفيد - من وجهة نظره وهو عن فكر واتجاه لا يعجبه -  وأشار بأن أقرأ في اتجاه محدد أو كتاب معين بما يعتقد أنه يناسبني أو ربما يناسبه...

أثار سؤاله الأفكار في رأسي وورد عشرات الإجابات منها ما ذكره السابقين ومنها من إجاباتي وأفكاري الخاصة وفي ما يلي أهمها بما فيها اقتباسات ممن سبق للتذكير بها والتأكيد على أهميتها:

- أقرأ عن التاريخ لأعرف ماذا وكيف وصل الحاضر لما نحن فيه وأحاول استشراف المستقبل عند تكرار الأفعال نفسها ممن لا يعتبر من عواقب تكرار تلك الأفعال في السابق. قراءة التاريخ هي مشابهة للسير في الأرض والإطلاع على عواقب الأمور فمن نظر اعتبر والسعيد من اتعظ بغيره. في التاريخ ترى عدل الحكام وظلم الملوك وخيانات الخونة وأفول دول وتضحيات الأوفياء وتحول الشعوب من حال إلى حال وتكاد تسمع أصوات الحروب وضجيج بناء الأمم لحواضرها وعواصمها ونصائح الحكماء وأشعار السكارى والزهاد والمحبين ودعوات المساجين والمظلومين وما دبر بليل بين أحاديث القصور والمقاهي.  يقول شوقي: 

اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر *** ضل قوم ليسوا يدرون الخبر

- أقرأ عن الإلحاد والإيمان والليبرالية والعلمانية والاشتراكية والمذاهب والأفكار كلها حتى لا أكون جاهلا عندما أخاطب من يتبنى هذه الأفكار وحتى أخاطبه بلغته وفكره وأسلوبه  فربما أكون أقرب إلى إقناعه بفكرة مفيدة بدل أن أنفره بجهل وعدم معرفة عندما أكلمه باستدلال ديني مثلا وهو أصلا غير معترف بهذا الدين أو ألوم مذهبه وفكره بدون علم حقيقي واستدلال على أصول ونشأة ذلك المذهب والفكر فأصبح في نظره مجرد جاهل يحاول الدعوة لشيء غريب بدون علم ولا حقيقة. 

حين تقرأ عن خلق الإنسان والحيوان والطبيعة والفلك والبحر وكافة المخلوقات ستزداد علما وتدبر العالم وتوقفه عند الأيات سيكون مختلفا عن تدبر الجاهل لتلك الأمور لذلك القراءة العامة والخاصة والمتنوعة والعلم مطلوب لفهم وتدبر كتاب الله بشكل أدق. حتى تقرأ كتاب الله يجب أن تعرف كيف تقرأ أولا وحتى تتفكر في كتاب الله يجب ان تتعرف على  العلوم الطبيعية والإنسانية وكافة العلوم حتى يكون التدبر أعمق وإن كنت جاهلا بكل ذلك بكيف بالله يكون تدبر الجاهل؟ ولكل عصر علمه وجهله ومقاله ومقامه.  

- أطالع الفلسفة وأقرأ عن الفلاسفة ومذاهبهم وإتجاهاتهم لمعرفة تطور هذه الأفكار وتراكمها وكيف تأثر الناس بها وكيف تحورت وتغيرت وناقشها غيرهم حتى وصلت هذه الأفكار إلى عالم الواقع وأصبحت مذاهب لبعض البشر ومسارات لحكومات ومسببات لحرب وسلام ونشأة وارتقاء أو هبوط وانحدار وكما أن للبيان سحر فللكتب التي تحوي ذلك البيان سحر أيضا.

- أقرأ عن السياسة والحكم والديمقراطية والملكية والعدل والظلم لمعرفة الأفضل والأمثل وتبعات كل منها وتأثيره لتجنب الاستبداد والوقوع به ولو فعل ذلك عدد جيد من الناس لأصبح الوعي أكبر بمخاطر الاستبداد والظلم والطرق المثلى لتجنبه ومحاربته وعدم تحوله لجرائم في حق شعوب بكاملها.  من وجهة نظري، السياسي أو أي شخص ينتمي لحزب ولا يقرأ عن ذلك باستمرار فهو لا يستحق أن يكون في هذا المجال. 

- أقرأ الروايات الواقعية للنظر والحياة في عوالم جديدة موازية على نفس الأرض يعيشها أناس مختلفين في بقاع مختلفة وأتعلم عن عاداتهم وتقاليدهم وتعاملهم وأسلوب حياتهم وأقرأ كذلك الروايات الخيالية للهروب المؤقت من واقع أليم أو لتشتيت ذهني مقصود محسوب ومؤقت وربما لعلمي أن كتاب تلك الروايات كتبوا عن حقائق حصلت أحيانا ووصفوها بالخيال لتجنب بطش حاكم أو انتقام ظالم وغيرها من الأسباب كما أن الروايات تشد الشباب الأصغر سنا  للقراءة بشكل اكبر بكثير من كتب غيرها. من يكتب غالبا يكون عنده شجون أو أفكار أو حقائق يريد مشاركتها ولا يصل لمرحلة الكتابة إلا بعد نضوج تلك الأفكار واكتمالها وبالتالي فالقارئ هو المستفيد الأول من هذه الثمار وعصارة الأفكار. والقراءة النقدية تعودك على التحرر من الخرافات والأكاذيب والتفاهة بعد تحري الدقة والبحث عن الحقيقة ومقارنة الوقائع وهذه وظيفة القارئ المجتهد.

- عندما أقرأ عن الفارابي مثلا  أشعر أني أمضي ليلي بالسهر معه حتى لو كان التلقي في اتجاه واحد وكم أحسست في ليالي القراءة الصافية بأني عدت في ألة الزمن للقاء هؤلاء المفكرين والكتاب حتى لو كان بيني وبينهم مئات وألاف السنين والأميال. علوم ومعارف، أسمار وأفكار ولقاءات جميلة مرت مع الفارابي وروسو والجاحظ وبيغوفيتش والبستي ودان براون والحكيم وباولو كوليو والعقاد وهكسلي والسباعي ودي لابويسيه والكواكبي والغزالي والشنقيطي والكثيرغيرهم وللأسف هذه السهرات المفيدة الممتعة لا يدركها الكثير من الناس الذين ربما ألهتهم لقاءات البطون والشهوات والمصالح أو الأحاديث العابرة والجدالات في مقاهي الزمن المنسية. ربما لنفس السبب وصف المتنبي الكتاب بالجليس في قوله:

أعز مكان في الورى سرج سابح *** وخير جليس في الأنام كتاب

- القراءة لاتخلو من متعة وتسلية وطرف لكنها مثل الرياضة تحتاج في بداياتها لبعض الصبر والدربة للوصول للمهارة والإتقان والتوازن بين الواجبات الأساسية وبالنسبة لي هي من المؤشرات على مدى صبر وعقل الشخص عند التعامل معه ولاحظت أنه يغلب على من لا يصبر على قراءة عدة صفحات النزوع إلى قلة الصبر أو الحكم بسرعة على ظواهر الأمور. القراءة هي إحدى المؤشرات النفسية على طبيعة الشخص أو هذا ما أشعر به من وجهة نظري الخاصة إضافة أنها طريقة للتنبيه على أهمية الوقت للقارئ الحريص في مقارنته بين أي فعل يفعله وبين إكمال الكتاب الذي يقرأه. 

- أقرأ  لأحسّن ديني ومهاراتي اللغوية والكتابية والعقلية والثقافية أو أتعلم لغة جديدة وأوسع مداركي وثقافتي وتذوقي الأدبي وأضيف خبرات جديدة ولتحسين ورفع مستوى الحوار مع الغير ولأعرف أكثر عن الدين والدنيا وأشحذ فكري وأتعرف على تواريخ الأديان والمذاهب الأخرى وتمييز الأحكام والأعراف ولمعرفة العدو من الصديق واكتساب الفضائل والحسنات واكتشاف بلاد وأماكن جديدة وصنعات ومهارات ومعرفة من يكتب بخبث لينشر الشر ومن يكتب لينشر الخير وفي سياق مشابه قال الشاعر:

عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه  *** ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه

ومن كلام ابن الجوزي في الكتاب قوله: "فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة. وقال: وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره، فكأني وقعت على كنز".
والقراءة أحسبها من نعيم الحياة الدنيا لأنها تهب القارئ أكثر من خبرة حياة واحدة كما قال العقاد (القراءة دون غيرها هي التي تعطيني أكثر من حياة واحدة).
في القراءة أيضا راحة نفسية وإشغال للنفس والوقت بما يفيد وتأثير على الأطفال في البيت يقربهم من القراءة ويمنحهم معاني وأهداف.

القراءة هي من أهم الأدوات لاكتساب المعرفة وهي سلاح التعلم الذاتي الذي تزداد أهميته يوما بعد يوم وهي واجب أخلاقي وديني وإنساني على كل فرد يريد أن يتفاعل مع دينه ودنياه. الخيار لك في أن تفقد تلك الأداة وتبقى أعزلا بدون فكر أو قلم أو أن تبدأ في القراءة وتشعر بالأدب والتواضع عندما ترى تلك المكتبات الضخمة وملايين الكتب التي لا يكفي عمر واحد لاستيعابها.

محمود الجسري

25-1-2021



إنتهى المقال وللمستزيد أرفق النصوص البديعة أدناه عن فضل الكتاب للجاحظ المحب للكتب والذي فارق الحياة بين كتبه:

"صامت ما أسكتّه، وبليغ ما استنطقته ،نعم الجليس والعدّة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس لساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء ملئ علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدّا؛ إن شئت كان أبين من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائب فرائده، وإن شئت ألهتك طرائفه، وإن شئت أشجتك مواعظه. ومن لك بواعظ مله، وبزاجر مغر، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس ... وبعد: فمتى رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة تقلّ في حجر، وناطقا ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء!! ومن لك بمؤنس لا ينام إلّا بنومك، ولا ينطق إلّا بما تهوى؛ آمن من الأرض، وأكتم للسرّ من صاحب السرّ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة   .... ولا أعلم جارا أبرّ، ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلّما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، ولا أقلّ جناية، ولا أقلّ إملالا وإبراما، ولا أحفل أخلاقا، ولا أقلّ خلافا وإجراما، ولا أقلّ غيبة، ولا أبعد من عضيهة، ولا أكثر أعجوبة وتصرّفا، ولا أقلّ تصلّفا وتكلّفا، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكفّ عن قتال، من كتاب. ولا أعلم قرينا أحسن موافاة، ولا أعجل مكافأة، ولا أحضر معونة، ولا أخفّ مؤونة، ولا شجرة أطول عمرا، ولا أجمع أمرا، ولا أطيب ثمرة، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكا، ولا أوجد في كلّ إبّان، من كتاب.  ....والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملّك، والمستميح الذي لا يستريثك ، والجار الذي لا يستبطيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق، ولا يعاملك بالمكر، ولا يخدعك بالنّفاق، ولا يحتال لك بالكذب. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بنانك، وفخّم ألفاظك، وبجّح نفسك، وعمّر صدرك، ومنحك تعظيم العوامّ وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغرم، ومن كدّ الطلب، ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خلقا، وأكرم منه عرقا، ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الأغبياء.

والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتلّ بنوم، ولا يعتريه كلال السهر. وهو المعلّم الذي إن افتقرت إليه لم يخفرك ... ومتى كنت منه متعلّقا بسبب أو معتصما بأدنى حبل، كان لك فيه غنى من غيره، ولم تضطرّك معه وحشة الوحدة إلى جليس السوء. ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلّا منعه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارّة بك، مع ما في ذلك من التعرّض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخوض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صغار الناس، وحضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الرديّة، وجهالاتهم المذمومة، لكان في ذلك السلامة، ثم الغنيمة"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق