الخميس، 6 فبراير 2020

مثلث القهر - قصة قصيرة


كان الممر الموصل لمكتب رئيس الدولة متوسط الإضاءة يعمه الهدوء باستثناء صوت خطوات مدير جهاز المخابرات الدينية الذي تجاوز الخمسين من عمره وبدا عليه ملامح الجدية والاهتمام مع بعض الامتعاض الذي تسببت به تلك الأخبار المزعجة التي يعلم مسبقا انها لن تعجب رئيسه الشاب. خلال مسيره كان يفكر بمنصبه وقوته وكيف أن كل الامتيازات المادية والقوة والسلطة التي حصل عليها يجب ان تستمر وتزداد حتى لو اضطر لتقديم المزيد من أولئك البسطاء لتلك المقصلة العمياء فما وصل إليه لم يحصل عليه ملايين البشر ويجب عليه أن لايفرط به مهما حصل. بقي بضعة أمتار للوصول لمدخل المكتب فغير تفكيره إلى استحضار أفضل الطرق لسرد ما معه من معلومات.

استقبلته موظفة الاستقبال بابتسامة رسمية واشارت له أن يتفضل بالجلوس لدقائق لتأخذ له الإذن بالدخول. لم يتردد في اختيار اقرب أريكة جلدية فاخرة ووضع الملف الذي يحمله على طاولة بجانبه وبدأ من جديد بترتيب أفكاره التي قاطعها بعد دقيقة دخول زميله مدير جهاز الاستخبارات العامة ورافقه إشارة السكرتيرة بالدخول لهما معا.

بدا المكتب كبيرا وفخما كالمعتاد ولاحظ عند اقترابه من مكان الجلوس أن رئيس الدولة يتابع بسعادة ظاهرة ,على إحدى شاشات العرض المتعددة والمنتشرة في الغرفة, لقطات تلخص أخر أسبوع من النقاشات الدينية الحادة التي انتهت كالعادة بخلافات كان يعرف نتيجتها. كيف لا وهو من اطلع على جدول كل المحاضرات والاجتماعات الدينية التي تجري حول العالم وقام فريقه بتلخيص كل تلك اللقطات قبل أن يرفقها في تقريره الأسبوعي لمكتب الرئاسة.

ألقى الأثنين التحية فأجابهم الرئيس ضاغطا زرا لفتح حائط خفي في الخلفية لتظهر غرفة موازية تحوي طاولة اجتماعات تتسع لثلاثين شخصا على الأقل ثم وقف مشيرا لهم بالدخول لتلك الغرفة.

بعد تبادل بعض العبارات التي تتراوح بين الترحيب والمجاملة جلس الجميع وبدأ الرئيس بالكلام متجها أولا ناحية مدير الاستخبارات العامة.

- الهدف اليوم هو سماع التقرير شبه السنوي من مدير الاستخبارات الدينية السيد نورس الذي تعرفه جيدا فقد عملتم معا في السابق ولكن كما تعلمون جميعا كان من الضروري فصل المخابرات الدينية لأهميتها الاستراتيجية في صنع الفكر الديني لكل الفرق في بلدنا كما نريده نحن ثم السيطرة على كل تلك الأديان والفرق والمذاهب حتى لا تسبب لنا مشاكل أو معارضة قوية أو رأي موحد يخل بموازين القوى التي نصنعها منذ سنين طويلة. ابتسم لهما معا مستطردا، الموضوع كما شبهه لي ابي قبل وفاته بالفرق الرياضية والمشجعين وتناحرهم وتقاتلهم واستنزاف وقتهم وجهدهم بشكل جميل جدا لنا بحيث يعطينا هذا الاستنزاف كل الوقت لنسيطرعلى أموال الدولة ومواردها واقتصادها وأراضيها وحتى البشر. المذهل في الموضوع أننا أصبحنا نطبق هذا الأسلوب في التفريق والسيطرة ليس فقط في الرياضة بل في الدين وبعض البرامج التلفزيونية وعدة أمور غيرها كما تعلمون.

- انتهز مدير الاستخبارات العامة توقف الرئيس للحظات قائلا: سيادة الرئيس الوالد كان رياضيا وعلمنا الكثير عن غباء الجماهير وعقلية القطيع والتفاعل الشعبي الأعمى ولا تزال بعض العبارات تتردد في ذهني بشكل شبه يومي وسيكون فخورا بكم بكل تأكيد اذا شاهد هذا التفوق الذي نحققه في المجال الديني الذي أسسه ووضع بذوره والذي تجاوز تفوقنا في المجال الرياضي فجماهير الدين عددها أكبر وجدالها أشد وتفرقها أسهل وكل ما زاد نشاط الجدال والحوار بالأساليب التي وضعناها كلما زادت الفرقة والتناحر ثم التقسيم والتنافر مما يؤدي لاستنزافهم وسيطرتنا على كل شيء.

- وافقه الرئيس بإيماءة من رأسه ثم نظرا معا لمدير الاستخبارات الدينية في انتظار تقريره.

- تنحنح السيد نورس قليلا ثم قال لدي عدة أخبار جيدة وخبر واحد سيء. سأعرض عليكم الجهود والاستراتيجيات والطرق التي تم تطويرها مع فريقي وأحدث الأرقام ثم خلاصة للوضع الحالي وبسرعة أخرج جهازا لوحيا من الملف الذي يحمله وشبكه بشاشة عرض أكبر مواجهة لمكان جلوسهم ثم بدأ بتقديم وسرد شرائح التفاصيل.

*********

قبل ذلك الاجتماع بيومين وفي صباح هاديء في إحدى الضواحي البعيدة في نفس المدينة دوى إطلاق عدة أعيرة نارية ثم ارتطام سيارة واحتكاك عجلات سيارة أخرى تنطلق بسرعة جنونية. بعد دقائق خرج شاب من بيت مقابل لمكان الارتطام ،يبدوا أنه مالك السيارة المصدومة، وساعد الراكب الوحيد في السيارة التي تعرضت لإطلاق النار على الخروج منها. كان الرجل بوعيه ولكنه ينزف من جروح سطحية في يده وجبهته التي ارتطمت بشيء ما في مركبته خرج مرضوضا مشتت الذهن متألما.

أسنده للوصول لحافة الرصيف القريبة وأجلسه ببطء ليطمئن عليه. كان رجلا في منتصف الأربعينات قد غزا الشيب نصف شعره يبدوا عليه الحكمة والوقار وقد تمالك جأشه بسرعة وأدرك ما جرى له وردد عدة مرات لعنات ودعوات على الظالمين. بادره الشاب المنقذ بالسؤال عن وضعه فأجابه الرجل يطمئنه بأنه بخير وطلب منه الاتصال بأخيه ليأتي وهذا ما حصل. عرض الأخ أن يعوض المتضرر فأجابه بالرفض تقديرا لما حصل لهم ونظرا لأن أضراره خفيفة مقارنة بما حصل لأخيه ولمركبته من اطلاق نار ومحاولة قتل. عالج الأخ بقية الأمور من سحب السيارة لورشة اصلاح بعد افراغها من المحتويات المهمة ثم أوصل أخاه للبيت بعد أن تأكد أنه ليس بحاجة لزيارة المشفى أو الطبيب.

في السيارة سأله بلهفة:

- ما الذي جرى بالتفصيل؟

- يبدو أن كتاباتي أو كلامي الأخير أزعجهم بشكل جعلهم يتخذون القرار بالتخلص مني. كنت أجلب طعام الإفطار لي ولأسرتي وانتهزوا الفرصة وأطلقوا علي كلابهم لقتلي. ما حدث يضع على عاتقي مسؤولية أكبر ويحثني على المتابعة لا التوقف.

- ما الذي تنوي فعله؟

- أول خطوة هي أنني لن أبقى أنا وأسرتي في هذا البلد الظالم فقد عم الفساد وفشا وأصبحت القيم نادرة و التغيير مستحيلا وبقائي يعني إما قمعي وحبسي أو قتلي. المستبدين لن يروق لهم أن يتكلم أي شخص بما يشاء خاصة إن كان يكشف خططهم وينشر الوعي ضدهم. لقد قسمونا شيعا وطوائف ويزيدون هذا التقسيم والتفريق كل يوم في كل المجالات إنهم يستنزفون كل الشعب بكل دياناته واعتقاداته وأحزابه ورياضاته وحتى تفاصيل حياته الصغيرة والكبيرة. إن قصص التقسيم والتفريق مكررة من أيام الفراعنة الذين فرقوا الناس شيعا وأحزابا بـأدوات سياسية وعسكرية واقتصادية إنه ثالوث شيطاني مكون من فرعون وهامان وقارون. وهو يحصل في كل العصور بأسماء مختلفة وتقنيات وأهداف متشابهة وقد ينتصر أو يهزم حسب مقاومة الشعوب له ووعيها به. 
و بالنسبة لي فلن أبقى مستضعفاً... سأهاجر.

- إلى أين؟

- في بسيط الأرض أوطان كثيرة المهم الخروج وبعدها سأجد أي عمل أؤمن به حاجات أسرتي الأساسية  ثم اتابع رسالتي وهدفي وهو نشر الوعي حتى لو كانت هذه بضاعة كاسدة في أيامنا هذه.

*********

في غرفة اجتماعات المكتب الرئاسي تابع مدير الاستخبارات الدينية السيد نورس عرض المعلومات قائلا:

- كما تشاهدون أيها السادة عدد الديانات في البلد تجاوز العشرين وإذا دخلنا مثلا في تفاصيل وتقاسيم الفرق والمذاهب الخاصة بالمسلمين فقد أصبح عددها الأن يتجاوز الخمسين. عشرين منها يصنف تحت فرق التصوف المتعددة وحوالي عشرة فرق تتبع لمدارس تتبع المذاهب الأربعة المشهورة مع اختلافات بسيطة في رؤية كل شيخ أو مجموعة شيوخ من هذه الفرق العشرة. هناك أيضا عشرة فرق نطلق عليها الطرق الحداثية وهي لها شيوخ تم صنعهم في مدارس خارجية مختلفة عن المدارس الشرعية الكلاسيكية أو التقليدية ومن ضمن هذه المدارس الحداثية من يخاطب الشباب ببعض فتاوي التسهيلات الجنسية ومنهم من يخاطب التجار بفتاوى مالية لا يستطيع اصدارها الشيوخ التقليديين إضافة لرجال الدين الذين يلعبون على اوتار العواطف الانسانية البحتة ويحثون الناس على البكاء العاطفي ثم الشعور بالارتياح بعده واحساسهم أنهم أدوا واجبهم الديني بدون أي تفاعل اجتماعي حقيقي ويوجد أيضا أصحاب الطقوس المتنوعة المفرغة من الفكر والتفاعل الاجتماعي التي تشمل حضور دروس وختم مشتركة أو حلقات ذكر وأكثرها فعالية التي يتخللها حركات الذكر الصوفية التي ايضا تستهلك وقتا وجهدا وتشعر الناس أنهم أدوا واجبهم الديني بعد ساعات من الحركة الجسدية المكررة التي تدخل العقل في شبه غيبوبة ومنهم من ينادي بالتجديد المدروس ومنهم أيضا من ينادي بالتغيير الاعتباطي وهذا أيضا محسوب ومشجع عليه وأذكر منهم فرقة تركز فقط على النقط المثيرة للجدل أوالعشرات من الأحاديث التي عليها خلاف مع تجاهل القسم الأكبر وهو ألاف من الحديث الصريح الواضح وهذه الفرقة مهمة لأنها تشكك وتثير الجدل في نفس الوقت. وهناك ثلاثة مدارس سلفية أيضا بها اختلافات والمفضلة عندي منها الجامية المطيعة بلا قيد أو شرط وأخيرا ما تبقى من الفرق هي عبارة عن مجموعة من خريجي الجيل الثالث من مدارسنا التي يتراوح قادتها أو شيوخها بين التنادي للعودة لأنظمة حكم ملكية استبدادية لمجرد انها مرت ضمن التاريخ الإسلامي تحت مسمى الخلافة أو التردد أو الطاعة العمياء لأجهزة الأمن بداية من القاءالخطب وحتى تجميع المعلومات لنا بشكل غير مباشر عبر تقديمها لوزارة الأوقاف.

طبعا هناك لكل فرقة أو مجموعة رجل دين نطلق عليه داخليا "شيخ الصنعة" ولهم أماكن عبادة مخصصة بالكامل أو اوقات خاصة في تلك الأماكن وليس بالضرورة في وقتنا الحالي أن يكون "شيخ الصنعة" مرتبطا بنا مباشرة كما في الماضي بل معظمهم الأن قد تربى وتبرمج بالكيفية التي نريدها ونحرص على عدم التواصل المباشر معه طالما هو يسير في المجال المخطط له ولا يناقش الأمور العامة ولا يتكلم في السياسة أو ايقاف الظلم أو الدفاع عن المساجين أو حتى حقوق الإنسان.

اعتدل نورس في جلسته وبدا كأنه تذكر شيئا مهما في احدى شرائح العرض واستطرد قائلا سامحوني يا سادة فقد كدت أن أنسى أهم 4 فرق ولكن ربما فاتني ذكرها في البداية لأن الإشراف عليها مشترك مع قسم خبراء علم النفس التابعين للمخابرات العامة. هذه الفرق التي ندعوها فرق العنف والتكفير الديني منها اثنتين يتوزع أفرادها في السجون منعزلة عن بقية المعتقلين الدينيين والسياسيين وهناك فرقتين خارج السجون ولكنهم تحت المراقبة المستمرة وبينهم الكثير من رجالنا لضبط تحركاتهم ولا يوجد اي خوف منهم طالما مفاتيح الأمور في أيدينا أما الذين في السجن فنطلق عليهم داخليا مصطلح "مصنع الإرهاب الداخلي". عند الحاجة لمزيد منهم نضيف بعض الشباب البسطاء لهم في السجن حيث يتم تلقين ونقل الأفكار التي سبق أن أدخل معظمها رجال مخابراتنا الأوائل ثم تتابع تدريسها عبر الأجيال التي تمر في السجن. العملية تستغرق من 4 الى 10 سنوات حسب عمر كل شخص وتفكيره أي نفس الوقت الذي يستغرقه اي شاب في دراساته الجامعية والعليا. بعد ذلك إما يطلق لينضم للخلايا التي في الخارج والتي هي تحت السيطرة والمراقبة أو يتم تصديره بشكل غير مباشر ليكون مشكلة على دول وأجهزة غيرنا. يتبع هذه الفرق بعض الأفراد من شتى الديانات يكون لديهم مشاكل اجتماعية او نفسية او غيرها ونحسن استغلالها لبرمجتهم بالقيام بأعمال ارهابية ضد الأخرين لتحقيق تشتيت وتفريق اكبر بين كل هذه الطوائف.

التطبيق يختلف أحيانا لبعض الطوائف والأديان حيث يمكن دمج إضافات بسيطة وهي تخويف كل متبعي الديانات الأصغر عددا من الأكثر عددا بأساليب مختلفة وبشكل مستمر وإعطائهم ما نطلق عليه تفكير قطبي توحدي بحيث لا يرى الا أصدقاء أو أعداء ولا ينظر للطيف الأكبرفي الوسط وهم من يطالبون بالحرية والعدل للجميع.

أما بالنسبة لمظهرنا العام في تشجيع التدين لدى الشعب فقد فتحنا عدة مدارس شرعية بمناهج معدلة من قبل اخصائيين لدينا وشجعنا على دورات عديدة لإبراز الطقوس حصرا وتجميد أو تحييد التفكيروالنقاش في المواضيع المفصلية. كمثال على ذلك هناك دورات التحفيظ المفرغ من التفكر وفهم المعاني وخاصة ما يدل منها على نبذ الاستبداد وعدم عبادة المادة وغيرها من الأمور المفصلية وقد أصدرنا عدة جوائز لتشجيع هذا النوع من التحفيظ والتنافس عليه. كمثال أخر هناك الفقه فقد أمرنا عشرات الشيوخ والطلاب بفتح حلقات للفقه ،المفرغ من اي فقه سياسي، باستثناء التشجيع على طاعة الحاكم حتى لو كان ظالما. أعطيكم مثالا على كيفية ادارة وتحكم الوقت في المجال الفقهي: خلال الشهر الماضي أمضى مئة ألف طالب خمس ساعات كل أسبوع في دراسة تفاصيل طهارة الماء وهذا يعني مجموع نصف مليون ساعة أي ما يزيد عن 57 سنة من مجموع وقت هؤلاء الطلاب تم تفريغه في موضوع واحد فقط وهذا يوازي معدل حياة إنسان تضيع اسبوعيا ونفس الأعداد مكرره لبقية المواضيع وتم تطبيقه على جميع الفرق. أيها السادة بالنسبة لوقت الشعب وفكره فهو تحت السيطرة.

- جميل جدا - قاطعه مدير الاستخبارات العامة - لقد اقتربتم من معدل إنجاز مخابرات ادارة المواد الاستهلاكية فهم يضيعون 70 سنة اسبوعيا من مجموع أعمار كل مئة الف مواطن في بحثهم عن أقوات يومهم وأرزاقهم سواء في رفع الأسعار او طوابير الانتظار او غيرها من حيلهم الكثيرة. أشار له بالمتابعة…

-أما بالنسبة للتشكيك المستمر فهذا له مدارسه الخاصة وأساتذته الذين بدورهم درسوا على أيادي رجال مخابرات سابقين بدون علمهم وتخرجوا كرجال دين. وفيما يخص خلق المشاحنات والخلافات والجدال بين هذه الفرق للحصول على المزيد من التحكم بوقت هؤلاء الأتباع وتشتيت انتباههم فقد تم الوصول لنتائج رائعة من خلال تشجيع ندوات حوار الأديان ومحاضرات النقاش المذاهبية وتلميع بعض أصحاب الأراء الجديدة وطرحها لإثارة المزيد من الجدال ومن النتائج الجانبية الغير متوقعة لهذه المؤتمرات خروج مذاهب وتيارات جديدة تنشط في بدايتها وتثير المزيد من الغبار والتشويش.

- التفت الرئيس لمدير الاستخبارات العامة متسائلا هل تم التنسيق بهذا الخصوص بين أجهزة الاستخبارات المجاورة؟

- طبعا سيادتكم التنسيق قديم ومستمر ويوجد تعاون مشترك بهذا الخصوص فالمصالح مشتركة ولحسن الحظ لم يظهر هذا التعاون للعلن بسبب تغطية عواطف الشعوب واندفاعها الأعمى بدون التفكر في النتائج وبدون تمييز الغث من السمين...

- نظر الإثنان لمدير المخابرات الدينية الذي تابع قائلا:

- من الأخبار الجيدة أن تقنيات التواصل الاجتماعي والانترنت أصبحت من وسائل الإلهاء المؤثرة جدا في مجالنا ولدينا قسم لنشر كل ما يثير الجدال والتناحر وإضاعة الوقت بين الناس الذين هم بدورهم يقومون بدور السماعات المكبرة وارساله لبعضهم البعض ليصل للملايين خلال ساعات. انتقل للشريحة التي بعدها ثم ابتسم قائلا:

أما أطرف ما في الموضوع فهناك عدة مدارس ومجموعات دينية حول العالم تتبنى هذه المناهج والطرق والمنافسات المفرغة التي قمنا بتطويرها ونشرها وبذلك فهم يسيرون على مناهجنا بدون علم ولا معرفة ويصبح معظمهم كما يقال "حافظ مش فاهم" أو حتى يظن نفسه فاهما ولكن يكون فهما منقوصا ويعتبر عاملا في جهازنا الضخم بدون علمه وبالمجان ولدينا ملف يحوي مئات الجماعات والمدارس التي تقوم بذلك ويتم تحديثه وإضافة المزيد منها بشكل اسبوعي كما يردنا من عيوننا حول العالم.

- الخلاصة أيها السادة أننا نجحنا منذ عشرات الأعوام بتفريق الشعب لشيع وأحزاب وطورنا هذا التفريق حتى أصبح من شبه المستحيل لديهم إعادة تجميع أنفسهم وأشغلناهم بأمور كثيرة تبعدهم عن التدخل في سياستنا وتحكمنا بالبلاد ومواردها وكل ما يتعلق بإدارتها حتى لا نضيع وقتنا معهم وفي خلال فترة الحكم الحالية طورنا هذه الوسائل بشكل مكثف حتى أننا الغينا معظم الارتباطات مع رجال الدين والكهنوت فقد كانت بالمئات منذ 30 سنة والأن هم أقل من عشرة رجال لدينا يعملون بهيئة رجال الدين في قمة الهرم أما الباقي -وهم بالألاف - فقد تم برمجته ليعمل بمناهجنا مع ايمانه التام والمطلق بها بدون أي ارتباط معنا وهذا انجاز عظيم جدا أما الشعب فقد تعود على ذلك عبر السنين وأصبح لديه الاستعداد الكامل لتقبل كل ما نمليه عليه وقدم الطاعة العمياء لنا كما قدمها لمعظم رجال الكهنوت هذا الشعب أصبح كالضفدع القابع في وعاء ماء و ترتفع تحته حرارة النار بشكل تدريجي حتى يصل لدرجة الغليان بدون أن يشعر ثم ضحك وأردف قائلا حسب إحدى تعابير تلك الفرق هذا الشعب أصبح "كالميت بين أيدينا نقلبه كما نشاء".

في الختام اعتذر عن الإطالة لكن كما شاهدتم الموضوع به تفاصيل كثيرة جدا وقد اختصرتها قدر الإمكان تقديرا لوقت سيادتكم مع شكري لمتابعتكم.

سادت ثواني من الصمت ثم تكلم الرئيس:

- هذه النتائج المذهلة هي نتاج أكثر من خمسين عاما من العمل الدؤوب والمستمر بدأها من كان قبلنا وورثنا عنهم كل هذه السلطة والقوة والثروة التي نستمتع بها مع المقربين منا تذكروا دائما أنه يجب علينا الحفاظ على هذه النتائج وإن فرطنا بها فسنسقط جميعا في قبضة شعب يريد الانتقام إن تنبه لما فعلناه به. ولكن بعد كل هذه النتائج الجميلة ما هو الخبر السيء الذي ذكرته في بداية حديثك؟

- تجهم وجه قائد المخابرات الدينية وخرج صوته كالفحيح قائلا: لدينا مشكلة مع شخص جديد يدعى ملهم أبو جواد. إنه يحاول هدم كل ما بنيناه..

- وكيف سيهدم؟ ...تساءل قائد المخابرات العامة.

- إنه يقول أنه لا داعي في الوقت الحالي الأن لأي جدال ديني بين الفرق فهذا الجدال قد فرق كل الأديان عبر التاريخ ويذكرأمثلة انقسام الديانة المسيحية خلال اجتماعات نيقية وخلقيدونية وكيف أنها كانت عادة تبدأ بجدال وضرب أمثلة غيرها من انقسامات وخلافات حصلت بين المسلمين وسببها الأصلي جدال ويقول أن كل شخص هو مسؤول أمام ربه وعليه البحث والعمل والتفكر للوصول للحقيقة والواجب أن تنشغل الشعوب بقضايا اخطر مثل الاستبداد والديكتاتورية وهدر الأموال العامة وقمع الحريات وهي أخطر لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبدا حقيقيا خالصا لله إن كان مقموعا فاقدا لحريته الكاملة أو عبدا بشكل ظاهر أو باطن لمستبد يتحكم به بأشكال مختلفة. إنه يقول أن أول عمل يقوم به الدين الحق هو تحرير الناس. هذا الشخص خطير جدا في أفكاره وكأنه يقرأ ما نفعله أو يطلع عليه بتفاصيل مخيفة أحيانا.

إنه ينشر أننا نحن من نصنع كل هذه الخلافات والنقاشات وأننا سبب كل التخلف الذي تمر به البلاد وحتى يتهمنا بصنع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية المتفاوتة إضافة للفرق الدينية لزيادة التفرقة في المجتمع والسيطرة التامة عليه والمشكلة أنه يوزع نصائحه بشكل فعال وأًصبح له الكثير من المستمعين وبدأ البعض بالانتباه لما نفعله فعلا.

- وقف رئيس الدولة غاضبا وصرخ: هذا لا يمكن السكوت عليه أبدا إنه شرر صغير لنار قد تكبر وتحرقنا... ماذا فعلت بخصوص هذا الداهية؟

- كما اتفقنا ان لكل مديرجهازعدد معين من المواطنين يمكنه التصرف بهم وقتلهم طالما أنهم ليسوا مصنفين كأتباع لجهاز أخر وحسب ما تعارفنا عليه فقد أمرت بتصفيته وتم تنفيذ العملية صباح الأمس.

- تهللت أسارير الرجلين وصاح مدير المخابرات العامة ممتاز..

- قاطعه نورس ،مكملا بأسى، للأسف نجا بإعجوبة وأخذ قرارا سريعا بالهجرة وقد غادر البلاد فعلا بحيلة وعبر منفذ غير رسمي.

- تجهمت أساريرهم لوهلة ثم حاول قائد المخابرات العامة تغطية زميله قائلا: لا بأس سنتعامل معه في الخارج لاحقا إن أصدر أي صوت.

- أنهى الرئيس تلك الجلسة بتنبيههم على متابعة ملهم أبو جواد والاستمرار في كل ما يقومون به ثم صرفهم بعد تلقيه عدة اتصالات من ابن خاله وزير الاقتصاد والمسؤول عن كل الشراكات التجارية والمالية للأسرة في داخل البلد وخارجها.

***********

بعد عدة أشهر وفي إحدى القرى الجبلية كان ملهم أبو جواد قد أنهى عمله اليومي إضافة لأمور بيته وأسرته وتوجه لشرب الشاي المسائي مع مجموعة من سكان القرية الذين صادقهم وتعرف عليهم خلال فترة إقامته بينهم. كان مجلس المجموعة في حديقة على طرف القرية وكان يستمتع بهذا المسير الليلي خاصة اذا هبت تلك النسائم الجبلية العليلة محملة برائحة الجبال والأشجار المحيطة بهم. عب بضع نسمات من الهواء وشعر برضا وسعادة وطمأنينة لم يكن يشعر بها حتى في بلده السابق. وصل ملقيا السلام ورحب به الجميع. بعد تبادل التحيات وتجاذب أطراف الحديث شارك كل شخص بخبر أو سلافة ثم وصل دور الكلام له فأنصت الجميع لاهتمامهم بأسلوبه وخطورة مواضيعه. كان يشعر أنها رسالة وأمانة عليه أن يبلغها للجميع فالظلم لا يميز وإن لم تنتبه الشعوب ستستغل ويدفع أبنائهم الثمن لأزمنة طويلة.

نظر في أعينهم وخاطبهم من قلبه ولسانه قائلا:

تكلمنا في اللقاءات السابقة عن لا جدوى الجدال في أمور كثيرة وكيف أنها مجرد تشتيت وإلهاء وإضاعة وقت وقع بها العديد من الأمم السابقة وتكلمنا أيضا عن القضايا الكبرى وأن سبب التخلف هو الإنسان المقهور المظلوم واليوم سأخبركم عن مثلث هذا القهر المكرر بأشكال مختلفة وهو مكون من فرعون وهامان وقارون…

النهاية
****************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق