الثلاثاء، 12 مارس 2019

الفارابي وآراء أهل المدينة الفاضلة


ترددت قبل الكتابة عن الفارابي لظني أن الحديث عن المفكرين المعاصرين قد يكون أكثر جدوى في الوقت الحالي ولكني تذكرت أن الكثير من الكتب الحديثة تسرد أفكار ونظريات ومقولات لأرسطو وأفلاطون وهم أقدم من الفارابي. وخطر لي أن إعادة سرد بعض أفكار الفارابي قد تذكّر القارئ المعاصر بتلك الفترة من التاريخ في القرن العاشر ودرجة رقي تصورات "المعلم الثاني"  للكثير من الأمور والقضايا التي لا زالت تتكرر بأشكال مختلفة في عصرنا الحالي. 
يقول الفارابي أن السعادة هي القيمة العليا في ترتيب القيم التي يسعى لها المجتمع الفاضل ومن شروط  نشأة المجتمع معرفة أن الاجتماع الإنساني ضروري وهو وسيلة لبلوغ الكمال وتحصيل تلك السعادة في الدنيا والأخرة. ويؤكد أن المدينة هي النواة الأساسية للتجمعات الكاملة وهي أول مراتب الخير والكمال لذلك يسرد الفارابي تصنيف المدن وأنواعها  (وربما أسرد تفصيلا عن المدينة الفاضلة  بجزء ثاني في المستقبل) وحيث أن بضدها تعرف الأشياء سأذكر في ما يلي اختصارا لشرح المدن الغير الفاضلة: 
1- المدينة الجاهلية: - لم يعرف أهلها السعادة وما هي -  يظنونها الخيرات الظاهرة مثل سلامة البدن والتمتع باللذات ونيل العظمة. ومن أمثلة أو أنماط المدن الجاهلية:  -المدينة الضرورية: حيث يقتصر أهلها على  الضروري للحياة فقط من مأكل وملبس وزواج - المدينة البدالة: يتعاون أهلها على نيل الثروة والاستكثار من الأشياء فوق مقدار الحاجة وهذه غايتهم في الحياة مع شح عام - مدينة  الخسة والشقوة: قصد أهلها التمتع باللذات من أكل وشرب ونكاح وغاية أهلها اللعب واللذة.- مدينة الكرامة: قصد أهلها أن يكونوا مكرمين ممدوحين مشهورين. - مدينة التغلب: هدف أهلها قهر غيرهم والامتناع عن قهرالغير.  وأخيرا - المدينة الجماعية:  حيث أن لكل فرد مطلق الحرية بعمل ما يشاء والجميع متساوون وهذه المدن هي التي يمكن إنشاء المدن الفاضلة بها لتوارد الجموع إليها واجتماع مختلف الناس والأهواء بها فينشأ بها الأفاضل ويتفق وجود الخطباء والحكماء في كل ضرب من الأمور.
2- المدينة الفاسقة: أهلها يعلمون عن المدن الفاضلة وعلومها ولكنهم ينهجون منهج المدن الجاهلة.
3- المدينة المتبدلة: كانت مدينة فاضلة وتبدلت وتحولت.
4- المدينة الضالة: تسود بها سعادة ظنية غير حقيقية ولا يسير أهلها على عقيدة صحيحة.
5- النوابت أو نوائب المدن وهي ليست مدن بل أفراد يعيشون في المدينة الفاضلة كالشوك بين الزرع ومنهم المقتنصون (بمعنى انتهازيين) يتظاهرون بالأعمال الفاضلة بقصد تحقيق أهداف أخرى. والمحرفة   الذين يحرفون ألفاظ واضع القوانين وأقاويله لتحقيق غاياتهم. ومنهم المارقة المصابون بسوء فهم حيث يفهمون شرائع المدينة الفاضلة على غير مقاصد واضع القوانين. ومنهم المزيفون: الذين يعمدون لتزييف أراء اهل المدينة الفاضلة إضافة للأغمار الجهال. وأخيرا البهيميون: يعيشون كالبهائم. سفاد ورعي وحياة بلا معنى و ربما استعبدوا واستعملوا كالبهيمة وربما يقصد بهم المجرمين ومجتمع و مناطق الجريمة أيضا.
ومن أهم خصال أهل المدن الغير الفاضلة التالي: - تخلف النظام والتراتب الإجتماعي حيث ينال كل شخص مرتبته بالتغلب على على غير استئهال أو استحقاق  منه فعلى سبيل المقال لا يكون العالم فيها عالما حقيقيا  ولا القائد أو المعلم مؤهلا لموقعه - تمادي أهل الجهل والفسق (يصبح أهلها مرضى النفوس يتأذون بالحق والجميل ويلتذون بالسيء نتيجة المواظبة على السيئات باختيارهم وإرادتهم وهذا هو الشقاء)  - سيادة فكرة العدل الطبيعي وهو القهر والقوة والتغالب (وقد يعدل الناس في تعاملاتهم بسبب الخوف من بعضهم وتأتي أجيال بعد ذلك وتحسب أنه عدل ولا تدري أنه خوف وضعف)  - اختلاف ملوكها عن المدن الفاضلة (كل منهم يعمل للحصول على ميوله ورغباته حسب طبع المدينة).
لُقب الفارابي بفيلسوف السعادة لبحثه المستمر عنها و مما يلفت النظر أنه أمضى معظم أوقاته في أواخر عمره في الحدائق والبساتين وقرب الأنهار حيث وجد سعادته هناك. 



أن تكون الإنسان في عصر الذكاء الاصطناعي


تخيل فلم مدته 3 ساعات يحوي على صور متتابعة لمعادلات رياضية وأجوبتها أو أي محتوى تعليمي مرئي. الإنسان العادي سيقضي مدة الفلم كاملة (3 ساعات) ليشاهد ويتعلم وطبعا سيتذكر بعض المعلومات
وسينسى البقية.
ثم لنتخيل أن هذا الفلم أٌدخل لنظام كمبيوتر مبرمج لتحليل الأفلام و الصور بحيث يمكنه قراءتها وتحليل هذه الصور وتعلم المعلومات منها خلال دقائق (وهذا ممكن جدا بتقنيات التسريع الحالية). مثل هذا البرنامج يمكنه مشاهدة ألاف الساعات والتعلم منها والمهم هنا أنه لن يمضي سنوات - مثل الإنسان الذي ترتبط ذاكرته بالمعاني والدلائل - في المشاهدة والتحليل بل مجرد ساعات فذاكرة الألة ترتبط بعنواين مباشرة فيداخلها. 
هذه ببساطة إحدى سرديات الذكاء الاصطناعي المحدود وقد طُبقت فعليا في مجالات عديدة أهمها المجال الطبي. (2017 أدخلت حوالي 129 ألف صورة لحالات سرطان جلد في نظام ذكاء إصطناعي ودرسها ثم أصبح قادرا على تمييزها بشكل موازي لأخصائي مصدق من البورد - Nature article Esteva et al).
أمضى البروفيسور ماكس تيغمارك فترة يبحث ويناقش موضوع الذكاء الاصطناعي مع العديد من رواد التقنية والمفكرين ثم ألف كتاب life 3.0 الذي صنف ضمن أفضل عشرة كتب في هذا المجال. يبدأ الكتاب بقصة خيالية ممتعة عن نظام طور نفسه ليصل لمرحلة عالية جدا من العلم ثم يسرد عدة نهايات محتملة في فصول لاحقة. ينتقل بعد ذلك لبعض التعريفات والفروق بين أنواع الذكاء الاصطناعي فمنه الضيق أوالمحدود مثل برامج لعب الشطرنج أوحتى قيادة السيارة ومنه الذكاء الاصطناعي العام الذي يمكنه القيام بعدة مهام مختلفة بما فيها التعلم بمفرده وقد يتفوق على الإنسان. من الأسئلة المطروحة هنا متى سيحصل ذلك وماذا سيحصل بعدها. بالنسبة لمتى فبعض الرواد في هذه الصناعة يقولون أنها قريبة وخلال عشرات السنين وبعض المشككين يقول بل هي بعيدة مئات السنين وهناك مجموعات- وهي الأغلبية - تنادي بالذكاء الاصطناعي المفيد و تتوقع أيضا أنه قريب ويجب أن تُحدد بحوث وأسئلة لطرحها وإجابتها منذ الأن قبل فوات الأوان.
يسرد الكتاب أمثلة منها: من المسؤول حال حصول حادث لسيارة ذاتية القيادة؟ هل هومالك السيارة؟
الركاب؟ أم الشركة المنتجة لها؟ ماذا لوكان الجواب هوالسيارة نفسها حيث سيكون لها تأمينها الخاص وقيمته تتغير حسب تاريخ حوادث ونوع هذا الموديل تحديدا؟ وهذا يدعولسؤال جديد. إذا كان للسيارة
تأمينها الخاص بها فهل تستطيع أيضا أن تملك نقودا وحساب بنكي أواستثماري؟ أوحتى عقار مثلها مثل أي شركة مسجلة؟
ينتقل الكتاب لعدة مواضيع منها التنافس الذي يجري بين الدول المتقدمة في هذا المجال وكيف أن هذا قد يغير العالم فتطور الذكاء الاصطناعي السريع لدولة ما قد يؤدي لسيطرة أحادية على العالم وإذا وصلت دولة أومجموعة من البشر للذكاء العام الذي يستطيع التعلم وتطوير نفسه بسرعة في المستقبل فهم الذين سيتحكمون بالعالم وفي المقابل فإن تطورعدة دول بشكل بطيء موازي سيؤدي لظهورعدة أطراف قوية مسيطرة ومتوازية.(بعض الدول بدأت بتخصيص مليارات الدولارات للبحث و التطوير في هذا المجال).
يشرح الدكتور ماكس أيضا كيف أن التقنية أحيانا قد تقوي الجهات المسيطرة أوالحكومات الاستبدادية بإمدادها بالمعدات وأجهزة التحكم بالشعوب (مثل أنظمة المراقبة والتعرف) وهي أيضا قد تساعد الشعوب والأفراد (مثل التشفير وحرية قراءة المعلومات وغيرها) ويذكر عدة احتمالات لما سيحصل في المستقبل بعد تطور الذكاء الاصطناعي فقد تكون حياة طوباوية في مدن فاضلة أو تكون جحيما ديستوبياً أو تكون بين هذا ذاك في سيناريوهات غريبة وممتعة.
أخيرا أذكر نقاط تستدعي التفكير في هذا الكتاب الجميل: ظن الكثير أن الحروب انتهت بعد اختراع النووي ولكن الأسلحة الذكية والذكاء الاصطناعي قد يقلب هذه المعادلة بشكل كبيرلا يتخيله الكثير. صعودهذا الذكاء ربما يجبرنا على التواضع وعدم الغرور بما وصل إليه الإنسان والأجدر أنه علينا التواضع بكل الأحوال.
 في الختام لتحسين حياة المستقبل يمكننا الكلام عن الذكاء الاصطناعي أو تطوير المستقبل من خلال التصويت للسياسيين لكنك يمكنك تحسين الحياة بشكل يومي مستمر من خلال تصويتك لما تشتريه واختيارك لما تستهلكه وما تشاركه مع الأخرين ودور القدوة الذي تقوم به.