الأحد، 19 أغسطس 2018

علاقة التخلف مع الاستبداد والقهر


( 4 أجزاء)

الجزء الأول.

يحلل الدكتور مصطفى حجازي في كتابه الرائع "التخلف الاجتماعي - مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" الملامح النفسية للوجود المتخلف في بلدان العالم الثالث وأسباب هذا التخلف ونتائجه المدمرة على الإنسان والمجتمع والدولة. 
في ما يلي بعض ما جاء في هذا الكتاب البديع كخلاصة يتداخلها بعض وجهات النظر الخاصة حسب قراءتي للموضوع وفهمي له:

علماء الاقتصاد هم من أوائل من بدأ بدراسة التخلف. كان الاعتقاد السائد أنه من السهل تحريك اقتصاد الدول المتخلفة للحاق بالعالم الصناعي، وبالطبع كان هذا الافتراض خاطئا بسبب تجاوز المنطق الاقتصادي لعوامل كثيرة، منها الوضعية والبنية الاجتماعية، والأهم من ذلك تجاوزه للإنسان الذي يعيش في العالم المتخلف. بعد ذلك حاول علماء الاجتماع سبر أغوار التخلف وأتى غيرهم من العلماء من شتى المجالات، حتى انتبه علماء النفس لهذه الآفة وتم التركيز على الإنسان وعقله وتصرفاته لدراسة التخلف وأسبابه.

كانت طرق دراسة التخلف بسيطة في البداية، فقد كانت تركز على الفقر وسوء التغذية والحالة الصحية والتعليم ودخل الفرد وغيرها. ومن النتائج المهمة معرفة أن التخلف هو ثمرة الاستغلال والاستعباد، ومن أكبر مشاكل المجتمع المتخلف قلة التصنيع والتطوير حيث يسيطر التجار على جزء كبير من رأس المال وموارد البلاد من خلال دورة تبدأ بشراء بضائع المزارعين وأصحاب الحرف اليدوية بمبالغ زهيدة ثم تصديرها أو إعادة بيعها مع سلع مستوردة بسعر مرتفع، واستثمار الأرباح في البناء وتوسيع المدن، وليس التصنيع والبحث والتطوير، لينتقل الريف للمدينة، وبذلك يزداد الفقر وتستمر دورة الخلل في الدوران. المؤشر المهم جدا هنا معرفة أن التخلفَ من الناحية الاقتصادية هو جزءٌ من آلة النظام الرأسمالي العالمي.

أيضا ربطت الدراسات الاجتماعية الأولية أسباب التخلف بالانفجار السكاني وقلة الموارد والأمراض والبطالة، ثم وصلت لسبب رئيسي وهو وجود قلة عندها امتيازات عالية مقابل غالبية بائسة، وهذا ما يخلق تبعية وعبودية ترسخها ديكتاتوريات وإدارات فاسدة متوَّجةً بقمع للشرطة أو الجيش.

و في وقت لاحق أتى تعريف التخلف بالمنظور النفسي، فهوهنا يتجاوز التقنية والإنتاج إلى هدر لقيمة الإنسان، وهو عالم فقدان الكرامة الإنسانية. هو عالم يتحول فيه الإنسان إلى شيء أو أداة أو وسيلة او قيمة رخيصة تعيش في عالم القهر التسلطي.
عالم القهر التسلطي يتمثل في سيادة القلة التي تمارس العنف المادي والمعنوي على الإنسان في المجتمع المتخلف، وتؤثر على كل ما له علاقة بأمنه وصحته وعمله ومجتمعه ومأواه وغيرها، وتوصله لمراحل يتضح فيها عجزه عن مواجهة القهر والتسلط والطبيعة، فهو لا يدري أي نوع من الضحايا سيكون ومتى وكيف.

يمر واقع الإنسان المتخلف بعدة مراحل، أولها الرضوخ والإذعان، ويليها الاضطهاد، ثم التمرد. وسنسرد في الجزء القادم كيف يتحول الإنسان المقهور إلى عدو لنفسه أولا، ثم كيف يضطهد ويحقد على أبناء مجتمعه، ثم كيف يصل لمرحلة الثورة والتمرد عند ترسخ اليأس من أي حوار سلمي، كما سنرى ما هي ملامح العقلية المتخلفة وكيف أن الكثير من الأمثلة تنطبق على كثير من الدول العربية والدول النامية المتخلفة بسبب الاستبداد والقهر.

معرفة الداء وتشخيص المرض وتوصيفه هي من أهم أسباب علاجه، ومعرفة تفاصيل التخلف والعقلية المتخلفة ستفيد في العلاج إن توفرت الفرصة.

الجزء الثاني.

في الجزء الأول عرفنا أن العالم المتخلف هو عالم فقدان الكرامة الإنسانية وهو عالم يتحول فيه الإنسان إلى شيء أو أداة أو قيمة رخيصة تعيش في عالم القهر التسلطي ووصلنا لسرد مراحل واقع العالم المتخلف التي يمكن تفصيلها في التالي:

1- مرحلة الرضوخ والإذعان وهي أطولها زمنا وأبرز ملامحها الإجتياف (من الإدخال للجوف بمعنى تقبل فكرة التبخيس للمقهورين والتعظيم للمتسلط) وفيها يزدري المتخلف ذاته ويزدري غيره لأنهم يعكسون مأساته وعاره وللمرأة النصيب الأكبر في هذه المرحلة من التحقير والتسلط. يتخلل هذه المرحلة عداء خفي من المواطن المقهور يتمثل في تخريب ممتلكات الدولة والتهرب من العمل وأحيانا انتقام خفي من المتسلط بالنكات والتشنيعات.

ينتشر أيضا الكذب والنفاق والفساد الذي يشمل الرشوة والمحسوبيات ويصبح جزءا من كل شيء ولعبة إلزامية لجميع المقهورين ومن يتجنب هذه المنظومة ينظر إليه كأنه ساذج أو غبي.

ينتج عن القهر في مرحلة الرضوخ عقد نقص منها شعور بالعجز، عداء للديمقراطية ، خوف. إضافة لعقد العار والخجل وهاجس الفضيحة من كل شيء كما يسيطر حب المظاهر على فئات كثيرة.

كما ينتج عن الرضوخ والقهر حالة اضطراب الديمومة وتتلخص في أن طول المعاناة للمقهور تجعله يضخم ألام الماضي مع تأزم في معاناة الحاضر وانسداد افاق المستقبل يرافق ذلك فقد ثقة بالنفس.

خلال فترة الرضوخ يهرب المقهور للماضي المجيد أو ممارسات تنسيه الواقع مثل الزار والمخدرات والتخاريف وغالبا يطغى الحزن على الحالة المزاجية حتى في الأغاني الدارجة والمسلسلات والكتب وكل شيء حوله.

2- المرحلة الثانية هي الاضطهاد حيث يرتفع التوتر النفسي ويصبح عند المقهور غليان داخلي وعدوانية وحقد على الأخرين من الشعب ويلقي اللوم عليهم بسبب ما وصل إليه يرافق هذه العدوانية المباشرة للشعب عدوانية رمزية للمتسلط.

عبر مرحلة الاضطهاد يميل المناخ العام للعنف والنزاعات المستمرة بين المقهورين لأسباب تافهة وربما يحصل القتل لخلاف على رأس ماشية أو أفضلية المرور. يرافق هذا شك وحذر من الأخرين ويتحول المجتمع تدريجيا إلى غابة ذئاب.

3- المرحلة الثالثة من مراحل العالم المتخلف هي مرحلة التمرد. حين يرسخ اليأس من الحوار السلمي تبدأ ثورة هدفها رد الاعتبار. حين افترض المستبد أن هذا الشعب لا يفهم إلا بالقسوة وعامله بناء على ذلك حزم ذلك الشعب أمره وعبر عن نفسه بالقسوة لأنه وصل لرد الفعل الحرج في الخيار بين الفناء أو المجابهة.

ومما يميز هذه المرحلة أن قهر فكرة الموت ينسف مشاعر الخوف ويقوم العنف بتوحيد الشعب المقهور.

خلال فترة التخلف هناك ملامح للعقلية المتخلفة تكونت عبر سنين القهر والاستبداد وتتلخص في:

- سطحية وعجز عن غوص في الواقع.
- الانفعال وعدم التجرد والموضوعية.
- خصاء ذهني أو فكري Mental Castration يتلخص في صد القدرة على الفهم بسبب الرضوخ للقهر.
- تردد وخوف من الفشل.
- تخبط وعشوائية وعجز منهجي.
- قصور الفكر النقدي والفكر المنهجي.
- انعدام المثابرة والدقة.
- قصور التفكير الجدلي. هذا القصور يخلق تصلب ذهني وعدم مرونة(إما-أو).

كل ما ذكر أعلاه هو وليد القهر والاعتباط ويتناسب مع درجة القهر المفروض على ذلك المجتمع.

الجزء الثالث.

في الأجزاء السابقة عرفنا أن العالم المتخلف هو عالم فقدان الكرامة الإنسانية وتحول الإنسان إلى شيء أو أداة تعيش في عالم القهر التسلطي وسردنا مراحل واقع العالم المتخلف من رضوخ إلى اضطهاد ثم تمرد مع تفاصيل كل مرحلة.


ننتقل للاستفسار عن عوامل التخلف؟ البعض يرى أن السبب هو قصور في التطور وافتقار لملكات ذهنية أو قصورعرقي وغيرهم يرى أن السبب هو انتشار الخرافة وكل هذا عبارة عن تحيزات وأحكام مسبقة غير صحيحة.

وذكر البعض أن من الأسباب الرئيسية طبيعة المجتمعات الزراعية حيث الاعتماد على المحسوس والملموس وتحكم التقاليد والعجز عن السيطرة على الطبيعة وأيضا نفتقر للدقة هنا فيوجد مجتمعات زراعية وفي نفس الوقت منتجة صناعيا ومتقدمة.
الجواب الحقيقي هو أن لب التخلف يكمن في أسباب اجتماعية سياسية ولها اتجاهين، أولهما سياسة التعليم والثاني هو التسلط والقهر.

في إشكالية التعليم تؤثر نوعية التعليم وسطحيته على المجتمع كله إضافة للطرق التلقينية والابتعاد عن التفكير الجدلي وعدم ترجمة أحدث العلوم، وأحيانا تنتقل الخرافات أو المعلومات الخاطئة خلال عملية التعليم في المجتمع المتخلف.

أما التأثير الأكبر وسبب التخلف ويليه العنف ،كما سنرى لاحقا، فهو التسلط والقهر حيث تصبح الحركة الفكرية إثما يعاقب عليه سواء بالنبذ أو التصفية ويسيطر الجمود والتصلب الذهني واستلاب للنقد والتحليل.

*****

أما عند النظر في حياة التخلف اللاواعية فقد استنتج الدكتور حجازي التالي:

- في وعي الإنسان يتناسب القهر والقمع الذي يتعرض له المقهور مع درجة القمع والعدوانية في اللاوعي.

- التسلط والقهر يتحول في اللاوعي إلى سادومازوشية وهي خليط من السادية حيث الاستمتاع بتعذيب الأخرين والمازوشية التي هي التلذذ بالألم. المتسلط في موقع السادي والمقهور في موقع المازوشي وهذه علاقة مريضة بدلا عن علاقة التوازن والاعتراف المتبادل بين الناس.

- أحيانا يسعى المقهور في اللاوعي لإيجاد توازن من خلال الهروب من صورة الأب القاسي (المتسلط) إلى الأب العطوف ويبدأ بالتفكير بالأبطال أو الأولياء أو الزعيم المخلص المنقذ وقد يساعد هذا في تخفيف القلق.

- مأساة الإنسان المقهور في اللاوعي تفجر مأساة بدائية وهي القلق الطفلي من انعدام القدرة وعدم الإحساس بالأمن والخوف من هجر الأم.
*****

الحركات الدفاعية التي يتبعها المقهور لحل مأزقه ،خلال مراحل الرضوخ والاضطهاد، تتذبذب بين الانكفاء والتماهي وسيطرة الخرافة ثم تنتهي بعد تلك المراحل بالتمرد والعنف (يرى فانون أن العنف هو نتيجة حتمية للقهر).

يتمثل انكفاء المقهور في التمسك بالتراث والدعوة للماضي (يشجعه المتسلط خاصة في جوانب التدين التي تؤكد سلطته وتسدل الستار على التحرر والعدل والحق). ويميل المتخلف المقهور لتقبل المصير والذوبان في جماعات مغلقة والتعصب لها. والبعض يبحث عن الحماية عن طريق التبعية للغير(ممن هم أقوى وأقرب للفئة المتسلطة).

أما التماهي فينعكس في تقليد المتسلط وأحكامه وعدوانه وفي مرحلة الاضطهاد يصب المقهور جأم غضبه على الأخرين ويعشق السلطة والتعالي والاستعراض ويصاب بعقدة الوجاهة والمظهر ويتبنى قيم المتسلط ويتحول لكائن مزيف فقد هويته ووقع ضحية استلاب فكري وثقافي وعقائدي.

وبالنسبة لسيطرة الخرافة فيلجأ البعض للهروب من الواقع إلى السحر والشعوذات وقراءة الطالع وغيرها من الأمور التي تعطي تفسيرات جبرية للمقهور مما يجعله يستسلم للواقع نتيجة عصور الظلم الطويلة.

مما يميز المجتمع المتخلف في هذه المراحل النشاط الفمي حيث يأخذ الطعام في البلدان المتخلفة قيمة مبالغا بها ويصبح تعويض أساسي عن الإحباطات المتنوعة التي يعاني منها الإنسان المقهور في كل شيء.

الجزء الرابع. 

عندما يفقد الإنسان كرامته ويتحول إلى أداة أو شيء في عالم القهر والتسلط يمر بثلاث مراحل شرحنا منها الرضوخ والاضطهاد وسنتكلم عن المرحلة الأخيرة التي يمر بها المجتمع المتخلف وهي التمرد والعنف.
العنف هو الوسيلة الأخيرة للمقهور عند عجزه عن وسائل الحوار فالعنف هو الوجه الأخر للقهر والاستبداد المفروضين غصبا على ذلك الإنسان في المجتمع المتخلف.

للعنف عدة أنواع منها العنف المقنع في مرحلة الرضوخ ويتمثل في إدانة الذات ، الكسل ، تخريب الممتلكات العامة ، التشنيع بالنكتة (و قد يتساهل المتسلط بشأن النكتة لما فيها من بعض التنفيس) ، الخداع والاحتيال وغيرها.
وهناك عنف رمزي يكون في خرق القوانين أو السرقة ويوجد عنف يتمثل في توتر وجودي وخوف عام واضطهاد يتحول لتعصب عرقي وفاشية ولوم جماعات خارجية ويتطور لحقد نتيجة تراكم مزمن للعدوانية وانغلاق ثم قتال يغذيه المتسلط الداخلي وحليفه الأجنبي. وقد يتحول العنف لسادية سواء فردية أو مؤسسية في المجتمع المتخلف (حيث تمارس في جميع مؤسسات الدولة: جيش - شرطة – سجون - مدارس - مستشفيات الأمراض العقلية.…).

يلاحظ أن العنف في الدول المتخلفة يوجه غالبا للداخل كقمع تمارسه السلطة بينما في الدول الصناعية فهو يتوجه للخارج.

العدوانية هي آفة البشرية التي تحايلت كثيرا للتستر عليها أو تبريرها ولكن توكيد ذات المتخلف يتم من خلال انكار الأخر بالعنف وهذا يفكك جميع الارتباطات العاطفية ويطغى الحقد لدرجة انعدام الاحساس بالضحية ويتم القتل أوالإبادة بكل برود ولا مبالاة كأنه أمر تافه وقد يصبح القتل مبررا كضرورة لإزالة العقبات وإعادة الأمور لنصابها الصحيح بل قد يصبح واجبا من أجل بدء وجود جديد لا تعرقله الضحية في نظر المعتدي.

في المجتمع المتخلف السلطة تخشى من المواطنية فهي تنزلها من الجبروتية الى مستوى اللقاء الإنساني الذي يتضمن اعترافا ومسؤوليات مشتركة متبادلة وبالنسبة للسلطة فلا يوجد علاقة تكافؤ أو ، حوار، بين السلطة والجماهير ، فهم مجرد أتباع وليس مواطنين. وبذلك تبقى جدلية القهر والعنف. القهر الطويل من قبل المتسلط القاسي مولدا للقهر وهدر الإنسانية والعجز في معظم فئات المجتمع ثم تأتي ردة الفعل كعنف بمختلف وجوهه مفجراً أكثر درجات العدوانية بدائية وتدميرا ويصبح العنف تشفيا لا يعرف الارتواء لأن الجرح النرجسي النابع من القهر صعب الإندمال لترسخ صورة المتسلط في أنها لا تفتح السبيل لإنشاء علاقات إنسانية إيجابية ويتبع ذلك انهيار للانتماء الاجتماعي وفقدان أي التزام تجاه الاخرين.

وضعية المرأة هي أفصح الأمثلة في المجتمع المقهور فهو يحرم الاعتراف بوجودها ككائن قائم بذاته، مقيدة في حريتها وقدرتها على الاختيار وتصبح أداة للانجاب والامتاع. يفرض عليها قهر يحد إمكاناتها الذهنية والابداعية والاستقلالية والمادية. المرأة في الطبقة الفقيرة المقهورة هي أداة ولادة وفي الطبقة المتوسطة تعاني من استلاب الذات عند محاولتها تقليد الرجل كنموذج للتحرر والانطلاق وقد تخسر انوثتها دون أن تربح الرجولة أو تتذبذب بين انوثة وتنكر لها. أما في الطبقة الغنية فيحصل لها استلاب معنوي في كونها أداة ثمينة لاستعراض ولمفاخرة للأب أو الزوج وإظهار الجاه والثروة لقد أفلتت من القهر المادي هنا ولكنها وقعت ضحية استلاب معنوي أو موت نفسي أبرز أعراضه الضجر الذي تحاول علاجه بمزيد من الاسراف والظواهر والاستهلاك.
من المهم لحركات تحرير المرأة معرفة أن الاستبداد هو عدو المرأة الأول وهو مسبب رئيسي للتخلف والعنف.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق